لأول مرة يتملكني شعور جارف برغبة الإنصات والمشاهدة لمجريات جلسات مؤتمر الحوار، كيف لا يراودني مثل هذا الشعور؟.. إنني أسمع وأرى اليمن بكل تنوعه وتعدده وأطيافه وآفاقه ومشكلاته وأوجاعه ومخاوفه وفوضويته وأحلامه وآماله وهي ماثلة ومتجسدة ومن خلال جلستين تم اذاعتهما عبر أثير قناة "اليمن" التي أثبتت بالفعل ولأول مرة في تاريخها أنها لكل اليمنيين مثلما هو شعارها الذي ظل حقبة طويلة مجرد كذبة كبيرة لا يصدقه حتى واضعوه أنفسهم..
فهذا الجنوب وقضيته حاضر بقوة وعلى رأس القضايا التي سيتم بحثها ومناقشتها ومعالجتها، كما وتجلت معاناة أهل الجنوب بارزة وواضحة في مجمل كلمات ونقاشات أغلب المتحدثين الذين وإن تباينت أفكارهم ورؤاهم حول اسلوب الحل، لكنهم في المحصلة يتفقون جميعاً على وجود مشكلة حقيقية لا ينفع معها اليوم غير التسوية السياسية العادلة، إذ لا مناص من الاعتراف بتلك الأخطاء الفادحة، القاتلة لروح التوحد السياسي والمجتمعي..
وعندما نقول الاعتراف بمعاناة الجنوبيين من الإقصاء والتهميش والنهب والعبث والتطفيش والقتل والتمييز؛ فذاك يعني مقدمة ستتبعها بكل تأكيد معالجة جذرية وحتمية للمشكلة وأسبابها، فمهما بدت هذه المعالجة قاسية وخطرة للبعض، لكنها وقياساً على النتائج الكارثية المتوقعة - في حال ظلت الحالة الجنوبية مفتوحة على ذات المنحى الممانع الرافض المتوجس من إمكانية المداواة والشفاء – فإنها تبقى هينة ومقبولة؛ بل وأقل كلفة ومخاطرة مقارنة بمعالجة الحالة الحرجة بالمسكنات الوقتية بدلاً من الاستئصال الكلي للورم الخبيث، أو معالجة الداء المزمن بالدواء الصحيح والمشفى نهائياً..
وهذه سقطرة- أكبر جزر الوطن العربي- وأخواتها الخمس، ذات الجغرافية الهامة الزاخرة بالتنوع السكاني واللغوي والنباتي والتراثي والاحيائي والاقتصادي والسياحي، أسمع أنينها وألمها من الضم والتبعية المزمنة ومن الإقصاء والإهمال والغياب الطويل لها وأبنائها الذين بلغ عددهم مائة الف نسمة ويقطنون مساحة تربو أربعة أضعاف مملكة البحرين، ومع كثافتها وأهميتها مازال أهلها يأوون الكهوف وطلابها ينشدون التعليم الجامعي أو العلاج بمنحة خارجية إلى حضرموت أو عدن أو صنعاء كما ولا يوجد فيها من يشغل درجة وكيل أو مدير عام في وزارة، هذا إذا لم نقل إن جزيرة سقطرة وتوابعها تكاد منسية في خارطة البلد السياسية، فبالكاد تم إدراجها مؤخراً في شعار مؤتمر الحوار وبعد متابعة ومشقة.
وهذه فئة المهمشين "الأخدام"، فبرغم كونها شريحة واسعة وتعد جزءً أصيلاً من نسيج هذا المجتمع، إلا أنها ولقرون ظلت مقصية منبوذة منتهكة ناقصة محتقرة، فباستثناء ما تحقق لهذه الفئة المجتمعية إبان النظام السابق في الجنوب - والذي من حسناته إزالة كثير من الفروقات الطبقية – حرمت هذه الفئة ومازالت تعاني من التهميش والسخرية والتمييز ولدرجة حرمانها من مواطنتها المعبرة عن انتمائها لهذا الوطن الذي لا يعني لها أكثر من بطاقة هوية أو اقتراع إلى وقت طلب القبائل المتناحرة، المتنافسة على مزيد من سطوتها ونفوذها.
المرأة؛ فبرغم أن مشاركتها كانت لافتة ومميزة في الثورة وفي مؤتمر الحوار؛ إلا أنني ومن خلال متابعتي للنسوة المتحدثات وماهية معاناتهن وقضيتهن، وكيف تم التعامل مع مطالبتهن؟ كنت قد خلصت إلى أن المرأة في هذه البلاد يستلزمها وقت وجهد كي تستعيد ما فقدته المرأة الجنوبية عامة والعدنية خاصة في كنف عقدين ونيف من الاحتقار والدونية والتمييز والاضطهاد الذكوري..
نعم فبعد أن كادت الأمية توشك على أن تلفظ أنفاسها مع رحيل الجدات المسنات في قريتي النائية؛ ها هي الأم في عدن جامعية، فيما ابنتها أو حفيدتها إما أُمية جاهلة القراءة والكتابة وإما بالكاد اكملت الصفوف الأولى... كنا نشفق على وضع المرأة المهين في الشمال بعد الوحدة وإذا بنا وبعد ثلاثة وعشرين سنة نرثي مكانة المرأة في الجنوب؛ بل وأكثر من ذلك نطالب مساواتها بشقيقاتها توكل كرمان، وأروى عثمان، وأمل الباشا، وسامية الأغبري، ونادية السقاف، والوزيرتين الأمتين السوسوة وحُمَّد، ونسيبة ياسين عبدالعزيز، وبشرى المقطري، وأسماء القرشي، وآمنة النصيري، وأحلام القبيلي والقائمة طويلة من الناشطات، المكافحات، البارزات، الكاسرات لأغلال الاضطهاد والتمييز والاحتقار للمرأة "المكلف".
وإذا كنا قد رأينا هذه الفئات؛ فإننا لا ننسى هنا ذكر الشباب، باعتبارهم أصحاب الفضل في تحريك المياه الآسنة، الواقفة، العفنة، فلولا تضحيات شباب الثورة لما كنا وصلنا إلى هذه المرحلة، ومع اشادة ومزايدة البعض لم يكن تمثيل شباب الساحات تمثيلاً عادلاً يرتقي لمصاف اللحظة الراهنة ومشكلاتها وتحدياتها وقرابينها وآمالها المستقبلية المنشودة؛ إذ كانت هيئة الرئاسة وكذا أغلب الأسماء الحاضرة والمتحدثة هي ذاتها الأسماء العتيقة المتسببة في صناعة هذه الحالة البائسة الناتجة في الأصل عن فشل واخفاق هؤلاء الذين يتصدرون المشهد، فلولا صراعاتهم ومشكلاتهم وحواراتهم واتفاقاتهم السياسية لما تفاقمت وتأزمت الحالة ولهذه الدرجة المخيفة والممزقة لنسيج المجتمع الواحد إلى أوصال وكيانات واقطاعيات وأقليات أوليغارية يستلزمها أكثر من ثورة وتضحية وجرأة وشجاعة.
حضرموت وعدن وتهامة وتعز وصعدة وغيرها من المحافظات كان صوتها موجوداً في المؤتمر، فيكفي الإشارة هنا إلى ما سرده أحد شباب حضرموت من جور وظلم وعبث وهيمنة وفساد القوى القبلية والعسكرية التي استولت على القطاعات النفطية وأحالتها إلى اقطاعيات تابعة لمشايخ ونافذين، فهؤلاء لم يتوقف عبثهم بثروة النفط والغاز وإنما أمتد لمساحة شاسعة من الأرض الاستثمارية المستولى عليها ويتم بيعها بملايين الدولارات ولمستثمرين من أبناء حضرموت، وهنا مكمن المأساة، وعلاوة على النفط والعقار والتجارة والوظيفة والأسماك تكاد معظم المشروعات الاستثمارية المركزية حكراً على مقاولين من صنعاء وإذا ما قدر لمقاول ونفذ مقاول حضرمي لمشروع فإنه مجرد مقاول من الباطن.
الكلام يطول ولهذا أكتفي بما ذكرته، آملاً أن تتسع صدورنا لكل ما يقال ويثار في الأيام القادمة، ففي النتيجة نحن إزاء ظاهرة غير مسبوقة في تاريخنا وثقافتنا ومجتمعنا الذي لم يسبق له يوماً في التعبير عن ذاته ومعاناته وهمومه مثلما هو حاله في هذه اللحظة الفارقة التي يعبر فيها وبكل حرية وشفافية وعدالة.
شخصياً لا أرى في سقف الحريات المرتفع سوى أنه مؤشر ودلالة لحالة تعافي وصحة لا برهان وقرينة لمرض وموت محتم، فكما هو معلوم بأن الاعتراف بمكمن الداء ومن المريض ذاته يعد مقدمة ايجابية للشروع في الكشف والتحليل والمداواة، كذلك هو مجتمعنا حين تطفح علاته وأوجاعه وأزماته ومكنوناته معبرة عن نفسها ودونما خوف أو جزع أو تحفظ.
محمد علي محسن
أوجاع مزمنة في يومي حوار 2010