تخدعنا الابتسامات أحياناً وتغشنا الكلمات أحياناً أخرى، تأسرنا تلك المواقف التي تأتي كليلة قدرية لم نكن نتوقعها، ونعيش كأوراق الأشجار في عز الربيع، خضراء يافعة، تتحدى قوافل الرياح الغادية والآتية دون أن تستسلم.. وفجأة تتغير المواقف وتتحول الابتسامات إلى دموع والكلمات إلى حكاية ذابلة تحكيها ليالٍ خريفية توشك أن تموت.. هكذا نصبح حين نجعل قلوبنا شرفاتٍ مفتوحة على الأرصفة والأزقة المسكونة بالعاطلين عن الحياة، نعم أولئك الأموات الذين يحملون نعوشهم داخل صدورهم ويعجزون أن يوصلوا مشاعرهم إلى قلوب الآخرين، أولئك الذين لا يدركون أي معنى للاتصال مع الآخر ولا يدفعهم حسهم الإنساني للبحث في أعماق الشركاء عن مساحة ود يحطون عليها رحالهم ويبسطون فيها إلى الأحبة يد الإيثار والوفاء، أولئك الذين يحيون ويموتون في الظل، عاشوا وماتوا فقط، كانوا وكانت أيامهم، رحلوا دون أن نشعر بوجودهم، علمونا أن نبكي حين تبتسم الأيام في وجوهنا وأن نرسل آهات الخوف والشجن حين تحتوينا أقدارنا، علمونا أن نخفت ونخبوا في أوج اللحظة التي تشتعل فيها حواسنا وأن نتوارى عن الأفراح وكأن الأحزان ديدننا وأن نتأهب للرزايا وكأن الحياة كارثة وقعت بإرادتنا.. أولئك الذين تمضغوا في بطون حملتنا قبل أن تحملهم وسكنوا في أحضان أحاطتنا بالحنان قبل أن تحيطهم ونموا على رقاع من البلور شهدت تفاصيل أحلامنا قبل أن تشهدهم، أولئك الذين اختلطت أدمعنا لأجلهم بالدماء وذبلت أمام نجوانا لأجلهم محاريب الدعاء واستطالت في البعد عنهم ليالينا المشمسة بالكبرياء.. كانوا وكانت أيامنا، صغاراً عشنا نخبئ أحلامنا خلف ظهورنا بين أصابع تلتهب شوقاً لصرخاتهم العابثة بالمرح، أخفتهم عنا استار القدر التي تنسدل قبل أن نصل إلى النهاية وحتى قبل أن تبدأ الحكاية، لكنها أستار السماء التي لا نملك أن نقف أمامها موقف الرفض أو القبول.. أولئك الذي تقاسمنا وإياهم لحظات الدهشة والخوف والسعادة والألم، عاشوا قليلاً قبل أن يرحلوا ليبقوا طويلاً داخل قلوبنا، أولئك الذين طوينا برحيلهم كتاب الفرح ومزقنا بعد صمتهم رسائل البراءة، وقطعنا بعد غيابهم حبال الأمل.. آه ما أجمل تلك الأيام التي ولت ونحن صغار يضمنا فناء منزلنا الكبير قبل أن يموت منا من مات ويرحل منا من رحل ويجحد أخوتنا من جحد ويبحث عن ذاته منا من بحث، ليتنا بقينا صغاراً لا يدهشنا إلا صوت أمي التي كانت ولازالت بيتنا ووطننا وأرضنا وسماؤنا وحضننا الدافئ.. ليتني استطيع أن أصل إلى اولئك الذين رحلوا، أن أعود إلى تلك الليالي التي جمعت ضحكاتنا حول موائد العشاء ونحن نرسل ضحكاتنا كغيث السماء لا يتوقف حتى تجف السحاب.. ليتهم يعودون وتشرق ليالينا الحالكة بهمهماتهم تحت أغطية المساء.. ليتهم يعودون.
ألطاف الأهدل
شمس الليل... 1927