الحوار الوطني أعده بمثابة نقطة محورية واساسية لبناء وصياغة الدولة اليمنية الديمقراطية المستقبلية، نعم يجب ان يكون الحوار بداية حقيقية لمرحلة تاريخية جديدة ناهضة ومستقرة تتقاطع كلياً مع اخفاقات وصراعات ومشكلات مراحل تاريخية ماضوية لم تفلح جميعها بتحقيق وانجاز الدولة اليمنية الديمقراطية المستقرة سياسياً واقتصادياً ومجتمعياً..
فسواء نظرنا جنوباً أو شمالاً، في تجربة الدولتين الشطريتين أو الدولة الواحدة؛ فإن هذه التجربة الطويلة بلا شك زخرت بالصراعات الدموية في سبيل الاستئثار بالحكم من جماعة أو قبيلة أو منطقة أو طائفة او جهة، كما وشاع فيها الخلاف والاقصاء والنفي والهيمنة الفئوية والشخصية.
السؤال الماثل هو: هل الحوار سينحاز لدولة المستقبل ومشكلاتها وتحدياتها أم سيكرس منطق الدولة الماضوية وإن بشكل آخر متكيف ومتلاءم مع طبيعة المناخات السائدة في الزمن الحاضر؟ هل بمقدوره تحمل تبعات إخفاق الثورتين والجمهوريتين ومن ثم الجمهورية المتعثرة؟ هل بمستطاعه تحقيق طموحات وأحلام شباب الثورة؟ وهل ستكون مقرراته مقنعة للجنوبيين خاصة واليمنيين عامة؟ وإذا قدر وتمكن من اقناع بعض الجنوبيين بجدوى المشاركة ؛ فهل بمقدوره حل المشكلة المؤرقة بالفدرلة المتعددة الاقاليم أم بالحكم المحلي أم بفدرلة الدولتين السابقتين أم أم أم؟..
البعض للأسف يعد مقاطعة الجنوبيين للحوار على انه رفض للحوار ذاته، وهذا خطأ وقع فيه الكثير من الحاملين اليوم لراية الحوار الوطني, باعتباره السبيل الوحيد لحل كافة المشكلات العالقة والمعيقة لنهضة وتطور الدولة اليمنية.. فمن وجهة نظري إن ممانعة القوى الجنوبية لم تكن في جوهرها رفضاً للحوار والتحاور؛ وإنما هذه الممانعة باعثها الاساس رفض تكرار الأمس بكل ما يعني لهم من تجربة مريرة ما لبثوا يدفعون الغالي والنفيس في سبيل ما يعتبرونه تصحيحاً لخطأ تاريخي لا ينبغي تكراره ثانية اليوم ومن خلال حوار لا يعلم أحد ماهية نتائجه..
فهذه المقاطعة يمكن تفسيرها وقراءتها على انها رفض ومقاومة لحوار لا تتوافر فيه شرطية الندية والتكافؤ, ناهيك عن فقدانهم الثقة بشركائهم الذين سبق لهم الغدر بهم سواء باتفاقيات الوحدة أو وثيقة الحوار الوطني " العهد والاتفاق ", فجميع هذه الاتفاقات والعهود والمواثيق تم النكث بها من شركاء التوحد والحوار..
فالحوار كي يكون بنَّاء وخلَّاقاً يجب ان تمهد ارضيته وان تتوافر له الضمانات الكافية وكذا الشركاء الحقيقيون المؤهلون فكرياً وذهنياً وموضوعياً لمهمة الدولة اليمنية الاتحادية الحديثة القائمة أسسها على نظام سياسي ديمقراطي تعددي يحقق الحكم الرشيد والمستقر وتسود في ظله العدالة والمواطنة المتساوية والحياة الكريمة والحرة والخالية من القهر والاضطهاد والتمييز والتهميش والهيمنة وووووالخ من ممارسات وادوات واساليب الدولة البوليسية القمعية.
نعم هنالك مخاوف كثيرة وهنالك هواجس وافكار وهنالك- ايضاً- تجربة مريرة مازالت حاضرة في ذهن هؤلاء الوجلين, القلقين, الرافضين ولوج حوار كهذا الذي تلتقي تحت سقفه أطراف عدة, فيما تغيب فيه الرغبة الصادقة المخلصة المؤهلة لمهمة البناء والتأسيس للدولة الديمقراطية المستقبلية..
فبكل تأكيد مقاطعة الحوار ليس بالضرورة ان تكون رفضاً للحوار والتحاور؛ وإنما يمكن اعتبارها على انها رفض لحوار غير متكافئ وغير مطمئن؛ فسواء من حيث مقدماته التي لم تكن باعثة على التفاؤل والصدق، أو من كون أطرافه المتناقضة, المتنافرة, المتصادمة, بمقدورها صياغة وانجاز الدولة الحديثة بما تعني من دستور يتساوق مع قيم ومبادئ عصرية انسانية، ونظام لامركزي وحكم وثروة وقوة ومواطنة يتشارك بها كافة اليمنيين ودونما فروق أو تمييز.
شخصياً لا تؤرقني القوى المقاطعة للحوار، او الانتخابات؛ بقدر ما يؤرقني الحوار الوطني الكائن وماهية مقرراته.. ففي المحصلة مخرجات الحوار هي من سيقوي قوى المشاركة او المقاطعة، قوى فك الارتباط واستعادة واستقلال الدولة القديمة، أو قوى الدولة الديمقراطية الاتحادية الجديدة، فنجاح المؤتمر يعتمد بدرجة اساسية على ماهية النتائج الايجابية المتوخاة منه, والعكس صحيح عندما تكون هذه النتائج سلبية.
اليوم سينطلق مؤتمر الحوار الوطني وتحت شعار " من أجل يمن جديد ومستقبل أكثر استقرار", فليكن الحوار طريقة مثلى لفك الارتباط بالماضي وتواريخه وصراعاته واخفاقاته، وليكن التحاور الجدي والمسئول منصباً في الدولة الفيدرالية المستقبلية التي بها يمكن استعادة ثقة المقاطعين جنوباً كما وبها- أيضاً- يعاد الاعتبار لمعظم اليمنيين التواقين لدولة لا مركزية حديثة تؤسس لمرحلة جديدة خالية من العبث والهيمنة البابوية والقبلية والجهوية والطائفية، مرحلة مختلفة يتعايش فيها الجميع ويتشارك في بلورتها كافة ابناء الوطن.
نعم الحوار يعد آخر الممكنات وعلى المتحاورين ان يثبتوا للجميع بانهم عند مستوى الثقة والمسئولية، فلا مجال للحديث عن وطن واحد مستقر ومزدهر دونما صياغة مواطنة جديدة ودونما نجاح الحوار في رسم ملامح الدولة اليمنية المستقبلية نظاماً ودستوراً وادارة وموارد وثروة وشراكة وقوة..
فالحوار ينبغي ان يكون اولاً واخيراً من أجل الدولة الديمقراطية الاتحادية التي فشلت في انجازها الدولتين السابقتين او الدولة القائمة، فرصة نادرة واستثنائية وعلى المتحاورين ألَّا يضيعونها، فنجاح الحوار في بلورة الدولة الجامعة لشتات المواطنة المتفاوتة والممزقة والمنهكة سيترتب عليه وضع عجلة هذه البلاد في مسارها الصحيح المفضي لوطن ناهض ومستقر سياسياً ومجتمعياً واقتصادياً، اخفاق المؤتمر يعني الهرولة نحو المجهول، ويعني- ايضاً- ضياع وتبديد آخر الممكنات.
محمد علي محسن
الحوار بكونه آخر الممكنات 1916