ربما كان للمدينة في المجتمعات النامية أكثر من معنى بما أنها لازالت في بداية تصميم رداء الحضارة الحديثة وبما أنها أيضاً ذات امتياز أخلاقي يرفض الكثير مما تفرضه ريشة الحضارة والحداثة الملونة بألوان الطيف اللا محدودة, في مجتمعنا اليمني ذو الخصوصية التقليدية من الصعب أن تفرض الحضارة لغتها الدخيلة صعبة المفردات على شريحة كاسحة من الناس تؤمن بتميزها الفردي وليست على استعداد لتغيير وجهتها التراثية ورفض الامتداد التاريخي السلبي لكثير من المبادئ الرخوة التي عفا عليها الزمن في كثير من البلدان, حتى من كانت أكثر المساحات الجغرافية فقراً وعوزاً.
لغة الحوار بين الأشخاص من أكثر المظاهر التي لم تستطع حضارة اللون والكلمة والمشهد أن تغيرها إلى الأفضل حين لا آداب للحوار بين الناس, فإذا كان وقت الحديث تحدث الجميع وإذا كان وقت الصمت لم يصمت الجميع! هناك حالة بشعة من اللا مسؤولية واللا مبالاة في حلقات الحوار أو النقاش المنزلية أو المؤسسية أو حتى السوقية, هناك قرار جماعي مسبق وقناعة داخلية رافضة لإستيعاب تلك الموجة الناشئة عن السطح الثقافي للمجتمع.
أهل المدينة وأهل الريف في مجتمعاتنا الأقل رقياً وارتقاءً على السلع الحضاري يتساوون تقريباً في درجة فهم واستيعاب تلك الموجة اللهم إلا تلك النخبة التي كان للتعليم أو الخروج عن حدود الوطن دور كبير في صقل أحاسيسهم وسلوكياتهم الحضارية الراقية, فاصبحوا داخل المجتمع مشكلة رقي لا يستهان بوهجها أبداً مهما حاول البعض تسليط أنواره الصناعية ذات الطابع الدرامي على هيكلها الشفاف والمتين في ذات اللحظة.
وبهذا المزيج المنكه بالبداوة والحضارة معاً نشأت تجمعاتنا المدنية وظهرت مؤسساتنا الثقافية ولكن الصورة أظهرت بعض العيوب المتمثلة في طغيان سلبيات الحضارة على إيجابياتها حتى بدى هذا المزيج مشوباً بالنقائص ومعكراً بالعيوب على واجهته الشبابية التي تمسكت بقشور الحضارة ولم تتعمق في جسدها استفادت من تلك التكنولوجيا سلبياً حتى أصابتها حمى الأجهزة الاستهلاكية على مختلف أشكالها وألوانها والأرض التي صٌنعت لأجلها.
أهل المدينة وأهل الريف أضحوا متقاربين جداً بل وضمن منطقة فكرية واحدة فيما يخص ذلك الاستهلاك الهادر لأسوأ ما في الحضارة من عيوب والذي أدى إلى تجميد فكرة التقدم وتحريض مشاعر التثاقل إلى الأرض والبقاء في رحم التخلف والرجعية ما تبقى من عمر المجتمع.
الجميع أصبح يعزف على وتر الحضارة دون أن يصدر لحناً واضحاً, تبقى المجتمعات على أبواب التمكين الحضاري والثقافي ما دامت تحاول تمييع قناعاتها على لهب المماهاة دون أن تعطي لأدخنة الحضارة حرية الصعود والهبوط من وإلى زورقها الاجتماعي الضخم الذي يتميز بحوامل سياسية, اجتماعية, دينية, تتجاذب وجوده وتحاول الحصول على ما يمكن الحصول عليه من مجتمعات تعيش على شفا جرفً هار من هاوية المدينة الصاخبة!.
ألطاف الأهدل
أهل المدينة وأهل الريف 2046