فجأة يمكن أن تصبح الجبال أكواماً من الرماد وجداول الأمنيات الناعسة حمماً تحرق أنامل الباحثين عن متعة الالتصاق بالموج وتقبيل ذرات الأفق النائم خلف قرص الشمس، فجأة يمكن أن يصبح للسحاب أفواه وللنجوم أعين ذابلات ولليل شفاه دافئات وللنسائم أذرع وخلجات، يصبح هذا حقيقة أو شبه حقيقة حين تتغير تلك الفكرة في عقل المرء منا وتتبدل حاجته ويدرك حقيقة الحياة من حوله وكأنها تتحول فجأة من صخرة إلى زهرة ومن مستنقع بغيض إلى بحيرة تحط على وجهها البجعات الناعمة، ومن أسلاك شائكة إلى أكاليل غار وزنبق وزعفران.. إنها الحقيقة، فالإنسان يعيش في ظل أفكاره ويحيا على ماء معتقداته ويطعم بدنه من اتجاهاته الفلسفية الصائبة أو الخاطئة ولهذا يخوض حياة غير مستقرة تتكرر فيها أزماته دون وعي منه بالمقارنة بينها وهو يشبه تماماً ذلك الببغاء الذي يكرر ما يقوله الغير دون أن يفهم ما يقول أو يصف تصوره بما ينطق الإنسان ابن مجتمعه.. نعم، لكنه قبل هذا رضيع فكره ومعتقداته ومبادئه التي تشكل نوع علاقاته ومداها مع الآخرين والتي تصقل أيضاً مهارته في التفاعل معهم ومع فرص العمل والمعيشة والعاطفة وكل ما يتعلق بمهارات التواصل الإنساني..
الإنسان وقبل أن يتعرف على مفردات العالم من حوله تفرز ذاكرته فطريات كل تلك المفردات بشكل جامد غير معرف شكلاً ولوناً وتستطيع القول أن ذاكرة الإنسان مكتبة كونية متحركة لكنها بحاجة إلى إصدار أوامر جادة لإخراج تلك المفردات في شكل صور معبرة ومتحركة ومؤثرة وواقعية.. ولهذا لا يشعر المرء منا بالغرابة أحياناً لوجوده ضمن حدث ما أو أمام صورة ما أو موقف ما لدرجة أننا نشعر في ذات اللحظة وكأننا أمام حدث مكرر عشناه مسبقاً، لا شيء يدعو للغرابة، لا شيء يدعو للاندهاش، فالحياة بما فيها شريحة مختزلة في ذاكرة الإنسان تحتاج فقط لمشاهد ديناميكية تترجمها، ومثلما هي الحياة كذلك فإن الإنسان أيضاً وبكل ما يطرأ عليه من تغيرات أو ردود أفعال أو آراء أو مواقف معينة موجود أيضاً كأيقونة سلوكية على سطح ذاكرته.. ولهذا نقول إن لكل إنسان توأماً صغيراً جداً يحمله في أحشاء ذاكرته كفكرة موجزة عن نفسه ومن يكون!
وحين يحدث التمرد على الذات وينجح الإنسان في تحطيم تلك القيود التي جعلت روحه مغلولة إلى المجهول وعقله معلقاً في سماء اللا شيء، يمكن أن نعلن ساعتها عن ميلاد إنسان جديد يستطيع قراءة الواقع كما هو لا كما كان يراه في عقله خالياً من وجود الآخرين الذين يثرون حياته بالخبرات كل لحظة.. وبما أن الإنسان حيوان اجتماعي ناطق فلابد من مرآة اجتماعية يرى فيها نفسه بلا حواجز أو مجاهيل نفسية أو جسدية، يمكن أن يفعل الإنسان الكثير لكن ذلك لن يحدث إلا إذا عرف نفسه.
ألطاف الأهدل
لا شيء يدعو للغرابة 1770