السمة الأساسية للحدث الثوري في 2011 والتي غدت طبيعته هي مشاركة الجموع الشعبية في تقرير مصير النظام السياسي والبلد عموماً.. هذه التطلعات لإخراج السياسة من دائرة أهل الحل والعقد والنخبة إلى فضاء الرأي العام هي الثورة الكبرى وهي مستمرة حتى الآن، ويقاس نجاح الثورة هنا وليس فقط بالنتائج المحققة على الأرض، لأن الثورة فعل مستمر حتى اللحظة، ولا يستبعد أن تمتد المرحلة الانتقالية إلى خمس سنوات في كل بلدان الربيع العربي التي لن تشهد حالة استقرار مباشر عقب عقود من القمع والمصادرة والاستبداد والفساد..
دخول الشعوب كفاعل أساسي كسر الاحتكار السائد للسلطة والسياسة، وتبدو أوهام العودة إلى الماضي بائسة في كلمات الكائن التبريري الذي عاد ليحرث في وادي النظرة الدونية للشعب محقراً إياه «بالدهماء»، ولا غرابة أن يأتي هذا الانتقاص والتحقير للشعب من قبل كائن احترف تبرير قتل شباب الثورة وتسويق الفبركات والأكاذيب في وقت كانت الكلمة فيه مثل الرصاصة..
يجرد هؤلاء الأدوات الواقع من مضمونه، وكل شيء عندهم مرهون بالتذاكي في استخدام الصحافة والصحفيين كأدوات، ومنطق أدوات « الزعيم » الآن يقول؛ فطالما استخدمت الصحافة والأقلام في إسقاط الحاكم بأمره فإننا نستطيع أن نقود ثورة مضادة بنفس الأدوات!!..
الواقع خلاف ذلك تماماً وقوة الصحافة والأقلام لا تنفصل عن الفكرة التي تحملها والحقائق التي تقرأها مجسدة على أرض الواقع.. من هنا بالذات، من هذا الواقع اكتسبت الكتابات منطقها وقوتها، وليس لأنها مجرد أدوات يمكن لأي كان استخدامها..
لقد فشل نظام علي عبدالله صالح في كل المهام والأولويات التي تهم المجتمع، وبدلاً من الاعتراف بالفشل ومحاولة تغيير السياسات لجأ الرئيس السابق إلى إبقاء الوضع على ما هو عليه مع اتباع سياسة الاحتواء للأحزاب والسياسيين والصحفيين والمثقفين والنخب التي بإمكانها أن تعبر بشكل أو بآخر عن حقائق الواقع المادي الملموس على الأرض..
وقد نجح إلى حد كبير في سياسة الاحتواء هذه، غير أنه فشل في احتواء نتائج فشل إدارته للمجتمع على الأرض، واستمر الواقع المادي الملموس يعبر عن نفسه بأشكال مختلفة في مواجهة النظام الفاشل والنخب المتواطئة معه، وبعض تعبيرات هذا الواقع اتخذت أشكالاً عنيفة وخارجة عن إطار اللعبة السياسية برمتها، فقد كانت حروب صعدة، والحراك الجنوبي، وظاهرة الإرهاب، وغيرها من الظواهر التي تعبر عن فشل النظام السياسي في إدارة البلد وعدم نجاعة مؤسسات الدولة من برلمان وحكومة محليات وبجانبها الأحزاب السياسية والمنظمات المدنية والنقابات، عدم قدرتها على استيعاب مطالب الفئات المجتمعية ومشاكلها وأولوياتها.. وفي نهاية المطاف جاءت الثورة الشعبية السلمية تتويجاً لهذا الرفض الشعبي الواسع للنظام الفاشل، والذي اتخذ هنا شكله الأرقى كثورة شعبية سلمية أعادت إنتاج المجتمع كفاعل وشريك في تقرير مصيره بعد سنوات عجاف من الاستبداد والديمقراطية الشكلية التي زورت إرادة المجتمع لإظهاره في برواز المبارك للعبودية والديكتاتورية والقمع..
لقد كان بإمكان النظام السابق- وأي نظام- البقاء لو سيطر على الواقع وليس السيطرة على الأقلام، السيطرة على الواقع بمعنى الاستجابة لأولويات المجتمع وتطلعاته وطموحاته وليس مضاعفة إشكالاته وتعقيدها.. غير أنه اختار مصادرة البلد كلها خلف صورته، فكانت النتيجة أن ذهب بعيداً عن مجرى اليمن الثورة، فمن يكون له جذور يبقى، ومن يكون بلا جذور تجرفه الريح بعيداً عن مجرى التاريخ.
الناس العاديون.. الناس الذين بدون أسماء رنانة ومجلجلة.. الناس غير المعروفين.. هم من ضحوا آنذاك بأرواحهم، هم من حوصروا, هم من مزق الرصاص أجسادهم, هم الأكثر نبلاً وسخاء، وهم الأقل حضوراً وضجيجاً.. وادعاء الشباب العاديين.. الشباب من دون ذوات متضخمة ومريضة, الشباب غير المحترفين للعبة الصحافة والكتابة, الشباب العفويون بعيداً عن « أصولية الحداثة» و«أصولية السلفيين ».. هم وحدهم من واجهوا ذئاب السفاح ورصاص السفاح.. هم وحدهم من تطابقوا مع ذواتهم الخالية من المخاتلة.. هم وحدهم من يحق لهم الكلام.. ومع ذلك يسكتون!!.
مصطفى راجح
أوهام العودة إلى « أهل الحل والعقد » 1703