لكل شعب من شعوب العالم ثقافته المستقلة عن الآخر، لكن هذا لا يعني وجود الكثير من نقاط التماس بين الشعوب، خاصة فيما يتعلق بالأمور العامة والشائعة.. والقليل من تلك الثقافات فقط يتشابه شكلاً ومضموناً مع بعضها البعض، لأن اختلافاً تاريخياً وجغرافياً كبيراً يجعل فكرة التوحد الثقافي أمراً مستحيلاً.. ومهما بدت التفاصيل الكبيرة متشابهة في بعض الثقافات إلا أن تفاصيلاً صغيرة تجعل من الممكن في ثقافة ما أن يصبح لا ممكناً في ثقافة أخرى وهكذا.. لكن هل تلعب الانتماءات الدينية والعرقية دوراً في صناعة الثقافات؟! والجواب نعم، لأن التشريعات الدينية هي من تنظم حياة الناس في أي مجتمع وبالتالي هي من تصبغ سلوكياته بأحداثها المرنة أو المعقدة أو المتطرفة أو الناشزة حد التمرد، ألوان الاختلافات تلك لا تطال فقط طراز البناء أو تباين الأزياء وتميزها أو تعدد نكهات الطعام وتفاوت مركباتها وإنما تشمل أيضاً عادات وأعرافاً وقيماً عميقة جداً سواءً ما كان منها خاصاً بالعلاقات العامة التي تربط بين طبقات المجتمع أو تلك التي تحكم سلوكيات الأفراد وتنظم آلية التعامل بينهم..
وفي منطقة عميقة جداً من النسق الثقافي لهذا المجتمع أو ذاك يحدث التقاء وتوافق تام في منظومة حقوق وواجبات تشريعية ساوت بين الناس، لكونهم بشراً من لحم ودم، أقواهم وأضعفهم سواء أمام صروف الدهر وتقلبات الأيام.. وإذاً فإن مساحة الاختلاف الثقافي بين الشعوب تختلف شكلاً لكنها تتشابه كمضمونٍ إنساني أو سلوك بشري، فلا يمكن أن تأتي كتب السماء كلها بما يخالف الفطرة، بل إنها جمعت البشر على اختلاف ألوانهم وأشكالهم في قالبٍ واحدٍ وضمن إطار معرفي متوحد ويكفي أن القرآن قد أشار إلى الحكمة التي من أجلها اختلف الناس في انتماءاتهم العرقية وهوياتهم الجغرافية في تلك الآية الكريمة من سورة الحجرات، (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله اتقاكم إن الله عليم خبير) صدق الله العلي العظيم.
وإذاً فحكمة تسخير الدواب والبحار والبراري من لدن رب العباد لم يأت دون حكمة، وتعليمه الإنسان صنع المركبات والسفن والطائرات كان له غاية تحقيق الانتفاع بالأسفار وما ينتج عنها من تبادل الثقافات واكتساب العلوم والخبرات.. لكن القضية اليوم أننا نأخذ من أسفه ثقافات الشعوب وأكثرها انحطاطاً وسطحية ونغض الطرف عن التزاماتها الأدبية والاجتماعية وانجازاتها العلمية والتطبيقية، خاصة ما يتعلق منها ببناء الفرد وتنظيم حياته ومنحه الحقوق الكاملة التي تؤهله ليكون إنساناً فاعلاً في مجتمعه صالحاً في نفسه..
فعلى سبيل المثال لا الحصر ما يحدث اليوم على مستوى التعليم في بلادنا، فقد عجزنا عن استيراد آلية تعليمية فاعلة ووضع مناهج تنموية مدروسة تؤهل طلابنا للالتحاق بأسواق الحياة على مختلف اتجاهاتها ليصبح التعليم أمراً روتينياً مقززاً ومنفراً لطلبته من الجنسين، بينما لم يحدث الأمر ذاته في استيراد ثقافات سطحية قد يهدد بعضها بنية المجتمع الأخلاقية، خاصة على المستوى الإعلامي وما يخفيه باطنه من العبث بحواس الناس وجوارحهم.
ألطاف الأهدل
بعض الاختلافات تصنع الثقافات 1896