هذا الوطن بطوله وعرضه، وسمائه وأرضه، وسكونه ونبضه، يهفو لشيء من العدل والحكم الرشيد على مساحة إنسانية معقولة لا تغمرها غوائل الشر والجبروت بعد أن أصبح القضاء جُبة وعمامة وعودة بالحاضر إلى عصر الإمامة. أصبح العدل بضاعة كاسدة في سوق القضاء منذ أن جُعلت له محاكم يرأسها قضاة سلاطين وقضاة متحزبون وقضاة منحرفون والقائمة إلى توصيفهم تطول وكأننا في معرض حديث عما لا يمكن حصره أو يستوفى عدده، فلا يكاد يكون قضاء اليوم أكثر من "ديوان شيخ" تضيق جنباته بحجم المظالم والـ"شيخ" قائم ونائم فأنى لقضية يمكن أن تخرج من أبواب المحكمة دون أن تثقل صاحبها الرشوات وتهز كيانه تلك المحسوبيات ما بين قاضٍ وقاض وجانٍ ومجني عليه ومعتدٍ بإثم وصاحب حق واستحقاق؟ ما رأت عيناي من المظالم جعلني أسأل عن مكانٍ آخر يجد فيه الضعفاء إنصافاً من أقوياء وجدوا في المحاكم ضالتهم المنشودة ليبسطوا إلى الناس أيديهم وألسنتهم بالسوء، ألا ساء ما يفعلون.
والأمر في دائرة التفاقم بعد أن أصبح لكل مظلوم وظالم محاميان يذودان عن حمى التشريع حتى يصل نصاب الناس الخارجين عن صراط العقل ذروتهم في مجاميع تجوب الشوارع حافية عارية إلا مما يستر عوراتها.
بارعون نحن في هيكلة دوائرنا وإداراتنا مهما بدت هذه الهيكلة بسيطة وساذجة ومهما كانت مخرجاًتها هشة ومفتتة، لكننا لا نبرع في فرض نظام واحد وموحد في جميع هياكلنا الإدارية والقضائية، ولو أن لائحة انتخابية يكون قوامها الدين والخلق يتم على أساسها اختيار القضاة وعلى أساس من النزاهة والحيادية لكانت ساحات المحاكم فارغة من أولئك المستضعفين في الأرض على اختلاف حاجتهم إلى تحقيق العدالة.
ويُقال إنه في زمن قد مضى وولى وانقضى كان يمكن لقاضٍ فقط يحكم بما أنزل الله أن يقبع دولة أو يقعد أخرى، فحتى بلاط الملوك والأمراء لم تكن تخلو من مشورة القاضي وحكمته، وأما اليوم فكل من تخرج "بتشديد الراء" من كلية الحقوق أو الشريعة يبدأ بترتيب أوراقه عملياً بحيث تبدأ أولاها بالقضاء، ناسياً أو متجاهلاً ذلك الخطر الجلل الذي يمكن أن يصيب الأمة بأسرها إذا شاع الظلم وعم الطغيان وتوقفت حياة الناس عند حكمٍ باطل أو مشورة جائرة ومن هنا كان لازماً على أصحاب القرار أن يبدأوا عملية التطهير من الفساد بقضاء خالٍ من المظالم المعلقة والتي تجاوزت الأعوام محلقة بين أيدي القضاة بلا أجنحة، فإذا أمهلت المحكمة ظالماً وأهملت مظلوماً ثم استعانت بيدها العابثة على دمغ الباطل وتزييف الواقع وإنكار الحقائق الواضحة والثابتة تحت شعار استقلالها هل سيبقى للعدل مكان بين الناس وهل سيبقى الثقة قائمة بين حاكم ومحكوم؟ لا أشك أن أحداً ما لا يدرك خطورة الأمر، لكن يبدو أن مفسداً واحداً تقف خلفه سلطة كاملة يمكن أن يغلب مائة مصلح لا تقف خلفه أي سلطة.
ألطاف الأهدل
في وطني.. قاضٍ في النار وقاضيان في النار 1772