ما إن صدرت القرارات الرئاسية بشأن هيكلة ومؤسسة الجيش؛ حتى انهالت برقيات التأييد والتهنئة من كل حدب وصوب، وكأن هذه البلاد ليست البلاد التي يستلزمها فعل الكثير والكثير كي يتوقف التخريب للمنشآت الحيوية والخدمية كالنفط والغاز والكهرباء، وكيما تبسط الدولة سلطتها ونفوذها وهيبتها على كامل المساحة والسكان..
الرئيس لا أظن قراراته بحاجة لمباركة من مجلسي النواب والشورى، أو من الحكومة ووزارتي الدفاع والداخلية، أو من السلطات المحلية في مأرب وشبوة وصعدة وغيرها من المحافظات؛ فقرارات الرئاسة يستلزمها أكثر من مجرد تدبيج بيان أو تصريح معلن في نشرات الأخبار وفي شاش القنوات الفضائية..
في مثل هذه الظرفية التاريخية والاستثنائية قيادة البلد ينبغي دعمها وتأييدها؛ ولكن بالفعل المخلص والصادق، وبالممارسة الجادة والواقعية، لا بالخطب العصماء، والأقوال والتصريحات المضللة المعلنة في نشرات الأخبار.
حين استولى المقدم/علي عبدالله صالح على السلطة قبيل ثلث قرن ويزيد كان أول فعل قام به هو تنظيم تظاهرة مؤيدة لتوليته الرئاسة، هذه التظاهرة تم التهيئة لها في دائرة التوجيه المعنوي قبل انطلاقتها إلى مجلس الشورى المنعقد يوم 17يوليو 1978م، فما إن تم تزكية الرئيس الخلف للرئيس احمد الغشمي - الذي اغتيل يوم 24يونيو 78م إثر انفجار حقيبة ملغومة كانت بحوزة موفد الجنوب مهدي الملقب بالحاج (تفاريش) -؛ حتى انشغلت وسائل إعلام النظام الجديد بتلاوة البرقيات المؤيدة والداعمة للرئيس صالح..
لأيام وأسابيع وقناة صنعاء وإذاعتها وصحفها منهمكة في إذاعة تلكم البرقيات المملة والسمجة المؤكدة كذباً ونفاقاً ورياءً بدعم قائد مسيرتها وبحكمته ورجاحة عقله، فلقد وصلت السخافة إلى إذاعة برقيات عقال الحارات ومشايخ القرى وأصحاب اللوكندات والمفارش.. لا أعلم ما جدوى مباركة السلطة المحلية ومشايخ وأعيان مأرب لقرارات الرئاسة إذا كانت سلطة الدولة لا قيمة لها أو احترام في هذه المحافظة الخارجة على النظام والقانون ؟ لماذا علينا الإنصات لبرقية وزارة الداخلية؛ فيما الأولى بها أن تحدثنا عن أولئك المخربين العابثين القتلة المهربين الذين قبضت عليهم وهم الآن رهن الحبس أو السجن ؟.
العجيب في المسألة أننا نسمع المذيع قائلاً: تلقى الرئيس/ عبد ربه منصور هادي برقية تهنئة ومباركة من الدكتور/عبد اللطيف الزياني ـ أمين عام دول مجلس التعاون الخليجي، هكذا وبكل صفاقة ومكر وخداع صرنا نهنئ ونبارك دونما تمييز أو احترام لطبيعة الأعراف والتقاليد البروتوكولية والدبلوماسية والإعلامية، ففي جميع الأحوال هنالك فرقاً ما بين موقف سياسي داعم ومؤيد لقرار اتخذته الرئاسة أو الحكومة وبين برقية تهنئة ومباركة بعيد وذكرى وطنية أو دينية.
نعم قرارات الهيكلة مهمة وأعتبرها خطوة جديرة بالدعم والتأييد الشعبي والحكومي والدولي، فما من شك أن مسألة هيكلة القوة المسلحة سيكون لها أثرها الايجابي على اليمن واليمنيين في حال أحسنا جميعاً التصرف والتقدير، في واقع معقد كهذا الذي يحيط بالرئاسة والرئيس بكل تأكيد يستلزمه جهد خارق للعادة، لا اقتفاء أثر النظام السابق الذي استهل عهده بالتظاهرات المضللة والزائفة، وبالبرقيات المؤيدة له، وممن يفترض أنهم تحت إمرته، ويشغلون وظائف في الدولة ومؤسساتها وأجهزتها وهيئاتها.
وإذا كان الرئيس السابق قد بدأ مسيرته الطويلة بتزييف وعي الناس وبترهيبهم بعروض الجُند وترسانة المعسكرات التي أخذت لباب القائد الصاعد مذ لحظة استيلائه على الحكم وحتى تاريخ عزله؛ فإنه يتحتم على الرئيس المتوج اليوم أن يضع بحسبانه حقيقة النهاية المأساوية والمهينة التي انتهى بها سلفه؛ نظرا لاعتماده كلياً على القوة القمعية الرادعة لكل من يفكر بالرئاسة، وكذا على الكلمة المزيفة المطنبة رياءً ونفاقاً وتضليلاً بالبرقيات والخطب والقصائد.
القرارات بكل تأكيد تعد خطوة شجاعة وجريئة ومع كل ذلك أظنها تأخرت كثيراً عن وقتها، كما وإنها أقل مما يطمح إليه اليمنيون التواقون إلى رؤية ما هو أكبر من إقالة زعطان أو تعيين فلتان، فالواقع يشير إلى أن البلد بمسيس الحاجة إلى خطوات جريئة وعملية وسريعة، بحيث لا يقتصر الأمر على الناحية العسكرية؛ وإنما تشمل هذه القرارات كثيراً من القطاعات والمراكز الحيوية والمهمة للدولة والمجتمع ولعملية الانتقال والحوار والاستقرار والتنمية والخدمات وووالخ.
المهم الآن للرئاسة وللمرحلة الحرجة هو ألا تتوقف المسألة عند قرار رئاسي يقضي بهيكلة جيوش متعددة؛ بل يجب أن تتبع هذه الخطوة خطوات تشمل كافة مناحي الحياة، فالبلاد تكاد واقفة ومعطلة وبانتظار قرارات واقعية وعملية وناجعة كي تفيق وتنهض من غيبوبة طال أمدها، كما لا جدوى من علاجها بالقرارات الموضعية المسكنة لبرهة، لكنها من جهة أخرى تزيد من مضاعفة الحالة الخطرة، ففي النهاية لا فائدة ترجى من هكذا قرار ما بقت وظائف الدولة عاطلة واقفة لا نبض فيها أو حيوية.
ختاماً: ربما عد البعض هذه التهليل والترحيب بمثابة رسالة مهمة ومؤثرة قد لا تفهم جنوباً، لكنها ذو دلالة ومعنى شمالاً.. أياً يكن الأمر صواباً أو خطأ؛ فالمهم باعتقادي يكمن بمدى إدراك واستيعاب من آلت إليه مقاليد الحكم، فالقوة والإعلام سلاحان لا غنى لسلطة وشعب عنهما، فالواقع اليوم غير واقع الأمس.. وعلى هذا الأساس ينبغي للرئاسة أن لا تنخدع بالمظاهر الزائفة المضللة، فلا القوة يمكنها الآن صناعة حاكم قوي ومحبوب أو أن الإعلام الموجه بمقدوره تدجين عقول الناس بالكذب والتضليل والنفاق والخطب والبرقيات والأنباء المملة والسئومة.
محمد علي محسن
قليل من الكلام 2230