وصل الحال بالشعوب العربية قبل ثوره الربيع العربي إلى مرحلة أعتقد الكثير بأن هذه الشعوب قد ماتت ومشاعرها تلبدت وكرامتها سحقت وعندما كنا ندرس التاريخ العربي والمواقف البطولية لرجال الأمة ونسائها, كان الواحد منا لا يعتقد أن تلك النماذج ستتكرر في عصرنا البائس, فمن أين لنا مثل نسيبة وخولة بنت الأزور والخنساء التي فقدت أبنائها الأربعة وهم يجاهدون في سبيل الله, فقالت الحمد لله الذي شرفني باستشهادهم في سبيل الله.. كنا نفتخر بهذه المواقف, فضلاً عن مواقف صناديد العروبة والإسلام أمثال المثنى بن حارثة وصاحب النقب الذي فتح الله على يديه وبتضحيته حقق المسلمون نصراً مبيناً ورفض أن يعرف بنفسه حتى يكون عمله خالصاً لوجه الله ولذلك في التاريخ الإسلامي دُون بصاحب النقب ,لأنه كان ملثماً ولا يعرف من هو إلا الله سبحانه وتعالى ,فكان سيدنا عمر عندما يدعو يقول اللهم احشرني مع صاحب النقب..
وفي نفس الوقت كان الواحد يشعر بصغر الأمة في هذا الزمان وما آلت إليه من ذل وهوان واعتقد الكثير أن هذه الأمة قد ماتت وكان الكثير يستشعر قول أبو الأحرار محمد محمود الزبيري :
والشعب لو كان حيا ما استخف به فرد ولا عاث فيه الظالم النهم
ولكن أثبتت ثورات الربيع العربي أن هذه الأمة قد تضعف ولكنها لا تموت, فمع اندلاع ثورات الربيع العربي دبت الحياة في الأمة واستيقظت الروح ,فهبت كالبراكين تكتسح الطغاة وتلتهم أزلامهم واليمن إحدى هذه الدول التي أستيقظ شعبها من سباته وضرب أروع الأمثلة في التضحية والفداء ومواجهة الموت وآلات الدمار المختلفة بصدور عارية وقلوب عامرة بالإيمان وبقضيتهم التي خرجوا من اجلها والشيء الأروع في هذه الثورة الأدوار البطولية التي سطرتها نساء اليمن قاطبة وبصورة أبهرت العالم, فكانت حشود النساء بمئات الآلاف ولو جمعنا حشود ساحات اليمن من العنصر النسائي لبلغت الملايين في صحوة ليس لها مثيل في تاريخ اليمن المعاصر وربما القديم أيضا وسقط منهن الشهيدات والجريحات وتعرضن للمخاطر والأهوال ولم يثنيهن ذلك عن مواصلة الثورة والنضال السلمي بل زادهن إصرارا وثباتا.
وكما كان لتعز شرف تفجير الثورة الشبابية كان لها أيضاً شرف سقوط أول شهيدة في ثورة اليمن الشعبية وهي الشهيدة عزيزة عثمان .
ولأن النظام لا يحتكم إلى قانون وليس لديه قيم تمنعه من ارتكاب العيب وتجاوز كل الأخلاقيات والأعراف فقد ازداد حقدا على الجميع ,بما فيهم المرأة اليمنية التي توارث اليمنيون قيما تجلها وتجرم الإساءة إليها مهما كانت الأسباب
وتجلى أحقر مراتب الحقد الدفين والانحطاط الأخلاقي في ١١ /١١ /٢٠١١ عندما استهدف المجرمون مصلى النساء في ساحة الحرية بتعز وقصف بالسلاح الثقيل واستشهدت ثلاث نسوة (( تفاحه ، ياسمين ، زينب )) وأصيبت أخريات وهن صامدات لا يتزحزحن وتبدى للعالم أجمع قبح هذا النظام وإفلاسه الأخلاقي ولله در القائل :
وإذا أصيب القوم في أخلاقهم فأقم عليهم مأتما وعويلا
فقد كانت إصابة هؤلاء المجرمين في أخلاقهم أشد فظاعة من الجرائم التي وقعت منهم على الثائرين والثائرات وكان القصف عشوائي على كل البيوت والأحياء دون تمييز أو مراعاة لأي اعتبار قيمي ووقعت إحدى قذائف هذا القصف على منزل هاني الشيباني الذي فجر رأسه واستشهد في الحال وبقت جثته بدون رأس, في هذه الأثناء شاهد العام أجمع مشهدا لا يتخيله عقل بشر ولم نقرأ مثيلا له في التاريخ شاهدنا تلك الشابة التي وقفت أمام جثة أخيها هاني الشيباني وهي تشاهد جثة لا رأس لها موقف رهيب يخور أمامه اكبر الصناديد الأبطال وإذا بوفاء الشيباني تلملم قطع رأس أخيها المتناثرة على الأرض وفي الحال تأخذ من دم أخيها وتوأم روحها وتكتب على الجدار ارحل يا سفاح وتطلق تلك الزغرودة التاريخية الخالدة في هذا الموقف الذي تدمى له القلوب قبل دمع العيون وكأنها في فرح وعرس بهيج ثم تقول أنا وإخواني وأهلي فداء لليمن.. تطلق هذه الكلمات في لحظة تطيش العقول من هول ما حصل, فلا اعتقد أحد يستطيع تخيل هذا الموقف الذي لا استطيع أن أجد في قاموس اللغة العربية العبارات التي توفيه حقه.
إنها عظمة الإيمان بالله ثم بالهدف وصدق التوجه واستصغار كل التضحيات ليحيى اليمن حرا كريما يسوده العدل والمواطنة المتساوية.
انه موقف سيخلده التاريخ وسيظل يدرس للأجيال وسيتفاخر به الأحفاد ,فهذه الزغرودة هزت المجرمين من تعز إلى صنعاء, لقد ضربت هذه الفتاة مثلاً عظيماً وحياً لأمة تحول أحزانها وكوارثها إلى أفراح تحب وتتلذذ بالموت والاستشهاد كما يحب المجرمون الحياة هذه الزغرودة كانت إحدى افتك الأسلحة التي هزمت المجرمين القتلة وجعلت رأس النظام يسارع إلي التوقيع على المبادرة بعد أيام قلائل من إطلاقها وستظل زغرودة وفاء الشيباني تجلجل وترعب بقايا القتلة والمجرمين في يقظتهم ومنامهم حتى يرحلوا جميعا وينالوا جزاءهم العادل وطالما اليمن تنجب أمثال وفاء الشيباني, فأهداف الثورة ستتحقق بإذن الله -عاجلا غير آجل- هذه هي عظمة نساء تعز وتضحياتهن..
أما رجالها فمواقفهم وتضحياتهم وصمودهم من الوضوح بما لا يحتاج معه التوضيح وإن كان من المحزن لأحرار وحرائر تعز ليس هذه الأرواح التي تصعد إلى بارئها ولا تلك الجراحات التي تنزف ولكن كان الألم الشديد من تلك الأصوات النشاز والمواقف المخزية لقلة قليلة من الذكور ولا أقول الرجال المحسوبين زورا على هذه المحافظة الذين شاهدوا هذه الجرائم في حق أهلهم ولم تحرك ذرة واحدة من مشاعرهم بل أن بعضهم انبرى يدافع عن القتلة وينافح عنهم بكل صفاقة دون خوف من الله أو حياء من الناس أو وازع من ضمير ويتمثل المرء قول الشاعر في أمثالهم :
من يهن يسهل الهوان عليه. ما لجرح بميت إيلام
مر عام كامل على هذه الذكرى والملحمة التاريخية لأحرار وحرائر تعز وقد رحل رأس النظام غير مأسوف عليه إلى غير رجعة ولكن مازال القتلة والمجرمون في المعسكرات والمواقع القيادية وكأن هذه الدماء وما سبقها ولحقها من تضحيات لا قيمة لها ,فعلى القيادة السياسية ممثلة بالرئيس عبدربه منصورهادي ورئيس حكومة الوفاق محمد سالم باسندوة وكل قيادات الوطن وقادة الأحزاب والتنظيمات السياسية, عليهم جميعا أن يدركوا أن أبناء تعز الذين قدموا هذه التضحيات ووقفوا هذه المواقف الوطنية الخالدة مستغربون صمتهم عن ما يجري لتعز وعن استمرار سيناريو الانتقام من تعز وأهلها وكأن الأمر لا يعني لهذه الجهات شيئا ونقول لهم إن لم تمارسوا سلطاتكم في إنصاف تعز ورد اعتبارها فسيكون الطوفان القادم من تعز أيضاً وبأسرع مما تتوقعون لاستكمال أهداف الثورة السلمية المباركة.
(والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون)
رئيس التكتل الوطني لأعيان تعز الأحرار
محمد مقبل الحميري
وفاء الشيباني والزغرودة الخالدة 2557