أرى البشائر تترى في نواحيها.. من بعد يأسٍ طغى من فعل طاغيها
بشرى حتى لعبيد العصا
ما جرى ويجرى في مصر بشرى دون شك لكل المصريين، بل وغيرهم، ولهذا أجد نفسي مشدوداً مع مصر, فأكتب البشريات حولها، وأترك البشريات عندنا في اليمن وهي كثيرة، وقد وقفنا مع بعضها، وهي بشريات لا يدركها إلا من يدرك طبيعة وضعنا، والتشريعات في المبادرة الخليجية، البشريات من مصر هي لكل المصريين وغيرهم حتى عبيد العصا الذين لم يتعودوا قط عدلاً ولا صدقاً من حاكم، وإنما عاشوها فرعنة وحرماناً وغطرسة وكبراً، فلما بدأ خير الثورة الأخيرة يظهر، والتغيير السريع يتتابع ووجدوا انتخابات بلا تزوير سعوا لإلغائها .فنجحوا وظنوا أنهم أفلحوا، ووجدوا جمعية منتخبة لوضع الدستور مكونة منهم جميعاً ولم يكن ذلك من قبل أبداً أنكروها وتنكروا لما وصلت إليه من وضع دستور فريد لم تعرفه مصر .فلم يتحملوا هذا الانجاز الهام جداً الذي سيكون له الأثر الإيجابي العظيم على مستقبلهم، فذهب السذج منهم يستمعون لمن لا تهمه مصلحة مصر ولا مستقبل مصر، أو من يظن أنه إن لم يستمر هذا امتداد للنظام السابق، فإنه معرض للأخطار وقلة الأمطار، ورفع الأسعار، وهجوم الفجار من اليهود والأشرار الذين أوقفهم مبارك وكان هؤلاء معه بالجدار المنصوب على حدود غزة، إن الذين اتخذوا هذا الموقف المفضوح، وربما يدفع من أعداء الشعب المصري، كان الأولى بهم وقد ادعوا أنهم مع الثورة أن يكونوا مع الشعب الذي ثار، وضحى، وظل ينتظر الثمار أهمها انتخابات حرة نزيهة، ودستور يضمن ذلك، يكون كابحاً لجماح الحاكم لو ندَّ عن الطريق المستقيم، تحد فترة بقائه أجيراً للشعب بأجر معلوم، لزمن معلوم فيغادر غير ظالم ولا مظلوم.
لكن هؤلاء المعارضين للديمقراطية أجهضوا الانتخابات، وكفروا بالدستور الذي شاركوا فيه، ولم يكتفوا بذلك بل ضللوا السذج من الناس بحجة أن الكاسب الأكبر هم الإخوان المسلمون!.
وكأن الإخوان المسلمين ليسوا من الشعب، ولا يستحقون أن يتمتعوا بما يتمتع به غيرهم من الحرية والعدالة والمساواة وينالوا كغيرهم من فرص الأعمال بحسب المؤهلات والكفاءات والنظم.. كما يعيش أبناء المجتمعات الأخرى في كثير من بلدان العالم..
واستطاع أصحاب هذه الفتوى السياسية الظالمة الكاذبة الخاطئة في أكثر شعوب العالم العربي أن يضللوا بها الناس ويخوفونهم منهم، ساعدهم على ذلك أن الحاكم الفرد يملك ويسيطر على مقومات ومكونات الدولة، فإذا أراد بجماعة أو فرد بطشاً لا يقف أمامه الدستور الذي وضعه ولا القاضي الذي وظفه ولا الوزير السجان الذي اصطفاه وتحرى في اختياره.
هكذا عُومل الإخوان في بعض البلدان أكثر من سبعين سنة في ظلال الممالك والجمهوريات، المدنيين والعسكريين من الحكام، وإعلام الحاكم وقضاءه يتولون كبر الجور والتزييف.
واستظل كل الظلمة بظلال القومية، وبالأحرى بمظلتها الصناعية، أما القومية فأنها بعيدة عنهم كل البعد، فلا يمكن لقومي صادق أن يستحل دم أخيه المسالم ولا عرضه ولا ماله، وهؤلاء قد استحلوا كل ذلك.
والعجيب والغريب أن قوميين كبار في صمتهم وشهرتهم وثقفاتهم، يظهرون تعشقهم للديمقراطية، وقبول واحترام الآخرين ظهروا عند الامتحان أنهم بتلك العقلية السخيفة نفسها، لم يلفتوا إلى المتغيرات التي قد حدثت أو لم يفهموها، أو لم يستسيغوا قبولها ما دامت قد أدخلت كل مكونات المجتمعات في بوتقة الأخوة الدينية والقومية والإنسانية!.
لم يعرفوا ولم يعترفوا بما قد وصلت إليه الشعوب من وعي ومعرفة بما يمارسه أعداؤها من أبناء جلدتها، ولم يدركوا ما أحدثته التربية الصحيحة النقية لشباب الأمة، بل لم يدرك أثر الزلزال الشديد الذي أحدثته الثورات العربية، وعلم الشعوب بالمؤثر الأكبر في هذه الثورات.
فتخبط الكذابون بين تأييدهم للثورة لكن إذا نجحت، ومعاداتهم للثوار، وبين تأييدهم للديمقراطية لكن إذا كانت على أيديهم ليتعاملوا معها كما تعامل الأولون؟! وهم مع الشعوب لكن بالدجل والتضليل وتشويه الأبطال الخيرين من أبناء الشعوب!
فيا لها من تناقضات تنبئ عن انعدام القيم والمبادئ السلمية، وتعبر عن ظالم وأنانية!.
تبنى أحكامها وتصوراتها قبل ذلك على الشك بالآخرين، وما كانت تعتمد عليه حينما كانت تتكل بالمخالفين، وتتوهم أموراً ربما يمارسها التيار الإسلامي لو نجح؟! والدافع لهذه الأوهام ـ في تصوري ـ أمران: الأمر الأول عقدة الذنب التي تلف حول أعناقهم بما فعلوه بالإسلاميين وظنهم أن غير مثلهم لا يعفون ولا يصفحون ولا يرحمون.. وهذا بعيد عن أخلاق الدعاة وقد أثبتوا أنهم لا يحقدون على غيرهم، ولا يعاقبون أحداً بذنب غيره، بل ولا بذنبه المتقادم وأقصى ما يعملون، اللجوء إلى القضاء، والمثال الحي على ذلك قتلى الإخوان في محيط القصر في القاهرة، لجأوا إلى القضاء وبس.
الأمر الثاني: أنهم يوقنون بأن الشعوب قد سئمت منهم وعافتهم فقد أعطتهم المهلة الطويلة فلم تر منهم غير الخراب والدمار والتفريط بإمكانيات الأمة وكرامتها.. ويرون أن لا مستقبل في ظلال ديمقراطية صحيحة، مع أن هذا الوهم يمكن أن يزال بحسن السيرة، وتغيير الوسائل المحرمة إلى وسائل مشروعة متاحة للجميع، والاعتراف للأمة بالذنب والتقصير وفقدان الضمير فيما مضى، والبداية ببناء أحزابهم بناءً صحيحاً حتى يثبتوا مع الشعوب عملياً.
أما ما يمارسونه الآن فإنه لا ينتج غير الخزي والعار، فما عاد ينفع الكذب والخداع والدجل والترغيب والترهيب.
المطلوب من هؤلاء الذين خرجوا بثورات مضادة للثورة أن يحسبوا حساباً صحيحاً، ويتصرفوا تصرفاً صحيحاً، وأن يشكروا للشعوب صبرها عليهم طويلاً، وعفوها عنهم كثيراً، وسيستبشروا بالجديد فإنه جد مفيد، ويصبوا جهودهم وطاقاتهم والدعم الذي يأتي إليهم في تثبيت القيم التي توصل إلى العدل والبناء واستعادة الكرامة، ويشدوا على أيدي الصادقين المضحين ولا يشككوا فيهم، ويراقبوا أعمالهم بعد استقرار الأمر وسيادة الدستور، وزوال العقبات المصنوعة من الداخل والخارج، يتعاونوا على البر والتقوى، ولا يتعاونوا على الإثم والعدوان ولو مع أتباع الشيطان، فالتغييرات بشرى للجميع حتى لعبيد العصا الذين يؤمنون بفرعنة الحاكم، وعطائه الحرام..
والله غالب على أمره.
د.غالب عبدالكافي القرشي
بشائر ..... 1958