والمقصود أن تضع نفسك في المكان الذي تحبه وتهواه.. حتى تبدع فيه، فالعمر قد يضيع في محاولات قد تُقابل بالفشل الذريع.. ولك في العبد الفقير مثال، فقد كان حلمه الوحيد منذ أن ينعت أظافر يديه أن يصبح صحافياً إعلامياً.. فجعل يُخطط لهذا الحلم الجميل والهدف النبيل منذ أيام الدراسة في المراحل الأولى، ويعيش لحظات وقوفه أمام إذاعة طابور الصباح المدرسي، وعندما أكمل الثانوية العامة بدأت الوساوس المرَضية تراوده، وصار مستسلماً كلية للقلق والارتباك، ونجحت الوساوس في الإحالة بينه وبين حلمه الجميل ووجد نفسه متردداً بين هذا التخصص والتخصص ذاك، وساعد العامل الخارجي – خصوصاً العائلي- في ذلك التردد.. بالإضافة إلى بعض الظروف التي طرأت على حياته في تلك الفترة، وبعد عمليات شد وجذب رست به الأمواج في شاطئ الصيدلة، مع أن رغبته في الإعلام، ولكن حصل ما حصل، ووجد نفسه يدرس في مجال غير مجاله، وفي مكان غير مكانه، وظل على ذلك المنوال قرابة العام، ولم يفق إلا وقد فات عام، وضاعت سنة من عمره.. ولم يلتحق في المجال الذي أحبه إلا في العام التالي، وبفضل الله وعودته إلى جادة الصواب التحق بالإعلام، وصار الآن يمارس المهنة التي طالما حلمَ بها، وتمناها.. وهكذا يجب على كل واحد منا أن يكتشف نفسه وذاته، ويحدد المكان الذي يناسبه.. فإذا كنت بارعاً في الهندسة فكن مهندساً، ولا تكن طبيباً، وإذا كنت بارعاً في التجارة، فكن تاجراً، ولا تكن مدرساً..فالذكي هو الذي يكتشف هواياته، وميوله، وقدراته، ويضعها في الشيء الذي ينجح فيه، ويكون بارعاً ومتفوقاً فيه، والنبي (صلى الله عليه وسلم) كان أعلم الناس بمقادير ومواهب الرجال، فكان يضع الرجل المناسب في المكان المناسب، وقد قال (صلى الله عليه وسلم): (أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب، وأفرضهم زيد بن ثابت،وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، ولكل أمة أمين وأمين هذه الأمة : أبو عبيدة بن الجراح)..ففي كل إنسان مناطق مميزة تميزه عن غيره.. إذا عرف كيف يوظفها التوظيف الصحيح والمناسب، ولنا في قصة شاعر الدعوة (حسان بن ثابت) فائدة كبيرة، فلم يعطه الرسول السيف للجهاد والدفاع عن المسلمين، ولكنه اكتشف طاقات حسان، وتعرف عليه جيداً، واستثمر إمكانياته ونمى إبداعاته ودعاه بقوله (اهجهم وروح القدس معك)، ولو كلف حسان رضي الله عنه بغير صياغة الكلمات ونظمها شعراً لأجهد حركته، وأربك خطاه، ولذلك خصصه الرسول للشعر الذي يشن الحرب النفسية على المشركين، في المقابل عرف النبي مكامن القوى لدى (خالد بن الوليد) وسماه سيف الله المسلول، كما عرف سر تميز (أسامة بن زيد) وتفوقه – رغم صغر سنه- فولاه قيادة الجيوش، وهو في الثامنة عشرة من عمره..
إن المطلوب منك عزيزي الشاب هو أن تعرف نفسك بصدق ووضوح.. وذلك من خلال التدريبات والأسئلة الذاتية التي تحدد شخصيتك، وتساعدك على معرفة ذاتك، ونقاط تميزك ونقاط ضعفك، فاجلس مع نفسك جيداً وفكر بحياة الناجحين من العظماء و النابغين، وعلى رأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم (قدوة المقتدين)، اقرأ سيرته، تأمل حياته، استفد منها، ومن سيرة الصحابة العظماء- رضوان الله عليهم أجمعين- تفكر في سيرة العلماء من القادة والمصلحين.. على اختلاف مشارفهم وتوجهاتهم ودياناتهم، (كالفارابي، وابن سينا، وأبراهام لينولكن، وغاندي، ولوثر كينج) وغيرهم من الناجحين الذين قرروا وبكل قوة أن يخطوا خطوة إيجابية في حياتهم.. واستفد من تجاربهم ولا ترض بأقل مما رضوا به من أحلامهم.. وتذكر أن لدى كل شخص مخزوناً هائلاً من المواهب والطاقات, لكنها محبوسة تحت ركام الشك والخوف والتردد وانعدام الثقة، فإذا حررها من كل ذلك فإنها ستنهمر كشلال من القوة التي تدفع به في الطريق الصحيح.
alaizky@gmail.com
موسى العيزقي
ضع نفسك في المكان المناسب 1753