تمكن اليمنيون في مثل هذه الأيام من العام الماضي من تجاوز مرحلة حرجة وإيقاف نزيف الدم اليمني بتسوية سلمية حظيت بتوافق محلي ودولي وإقليمي وكتبت صفحة جيدة للربيع اليمني, أقل كلفة وذلك بأعمال العقل والحكمة اليمانية, ورغم أن ثورة اليمن ضاهت ثورات الربيع العربي, بخروج المسيرات والاحتجاجات والمطالبة بالتغيير ورحيل النظام, وسقوط الشهداء في الساحات والميادين والشوارع ومع ذلك لم تفتر عزائمهم أو تفل قدرتهم أمام سطوة النظام وقمعه ورصاصاته, وظن النظام أنها رياح ستنتهي بالسكون, ومع تساقط الأنظمة الشمولية واحداً تلو الآخر, كانت الثورة اليمنية أكثر نضجاً وحكمة حينما اتخذت من المسار السياسي رديفاً للفعل الثوري, وأيقن العقلاء أن الثورة بدون حامل سياسي ستغرق البلاد في حمام الدم, لأن المؤشرات تؤكد تعنت النظام وتمترسه خلف ترسانة من الأسلحة وغياب بصيرته والاتعاظ بأمثاله ممن سقطوا قبله, فيما كان المجتمع الإقليمي والدولي يرقب الأحداث عن قرب وباهتمام بالغ, ويستطلع رغبة المجتمع اليمني بمختلف اتجاهاته وأيقن حينها بضرورة التغيير وأنه أمام موقف يحتاج إلى رؤية وروية لنقل السلطة بصورة أكثر أمنا وسلاسة, يخرج اليمن من أتون حرب يدير رحاها النظام ضد غالبية تتوق إلى التغيير, لذلك جاء ميلاد المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية المزمنة, ولم يكن ميلاد المبادرة الخليجية في شكلها الأول مقنعا للنظام بل أخذت نقاشات عسيرة وتعديلات أطالت أمد المعاناة, وسقوط الشهداء, وتدهور الأوضاع الاقتصادية والأمنية, وتراجع مستوى الخدمات وانعدام المشتقات النفطية, وتسلل القاعدة, والاعتداء على أبراج الكهرباء, وتفجير أنبوب النفط, والتقطعات والمظاهر المسلحة, وحادث دار الرئاسة, ومحرقة ساحة الحرية بتعز, وقصف مديرية أرحب ونهم, وارتفاع معدلات المواجهة مع النظام كانت الصيغة التوافقية والعقلانية للمبادرة الخليجية على طاولة الاجتماع في الرياض, رضي بها الحامل السياسي للثورة ومنحت النظام وبعض رموزه ضمانات الخروج من دار الرئاسة مقابل التخلي عن السلطة بصورتها السلمية, ورغم التردد والمماطلة والتسويف من قبل النظام محاولا كسب الوقت لصالحه, ظهرت صورته أكثر اهتزازاً أمام المجتمع الدولي والجوار الإقليمي, ولقي هادي قبولا محليا ودوليا وإقليميا, باعتباره الشخصية التي تقف من الجميع على مسافة واحدة, وزاد من تلك الثقة إدارته لليمن أثناء غياب صالح للعلاج في السعودية, وأبدى قدرة واثقة في معالجته للأحداث وإيقاف نزيف الدم ولجم الكثير من مظاهر الاحتراب وإيقاف فتيل المواجهة .
وإثر توقيع المبادرة الخليجية كانت أولى محطات المبادرة وهي تشكيل حكومة الوفاق مناصفة يكون رئيسها من المعارضة, وجلس الفريقان على طاولة واحدة, رغم التباينات ومعوقات الالتقاء, وصعوبة التكيف مع هذا الوضع, إلا أن الأيام أثبتت قدرة اليمنيين على التقارب والتحاور وتشكيل فريق عمل يقوم بمهامه وبمسؤولية واقتدار, ورغم النتؤات التي شوهت أداء الحكومة.
تأتي المحطة الأكثر أهمية وهي الانتخابات الرئاسية اعتبرته القوى الدولية والإقليمية بالون اختبار في طريق الحكمة اليمانية ومدى قدرة اليمنيين في الخروج من هذه المرحلة, باعتباره استفتاءً شعبياً لرئيس يدير مرحلة حرجة وإخراج اليمن من حالة اللا دولة , وتلبية المطالب الثورية, ومواجهة الموتورين من مؤيدي النظام السابق, والقدرة على إعادة لحمة الوطن في ظل تسرب عناصر القاعدة في أبين وأطراف شبوة وحضرموت, واتجه الجميع في استفتاء شعبي لمنح الثقة لرئيس اتثنائي في ظرف حرج من تاريخ اليمن, والمجتمع الدولي يرقب تلك العملية باهتمام بالغ, باعتبار نجاح الانتخابات هي رغبة اليمنيين في العبور للمستقبل, وجاءت النتائج مؤكدة توجه غالبية اليمنيين في التغيير والتطلع إلى دولة مدنية حديثة.
المحطة الثالثة هي تشكيل اللجنة العسكرية, وتميزت بتوليفة غاية في الدقة, مسؤوليتها الانحياز للوطن ورفع معاناته من مظاهر الانفلات الأمني, والعواطف المشدودة إلى الماضي, وشوارع مقطوعة, والساحة مليئة بالثائرين, وقادة المعسكرات مشغولون بما يجري, والترقب والتربص في كل مكان, والمطالبات بإزاحة الفاسدين وناهبي المال العام من الموالين للنظام السابق, وأصوات تنادي بحيادية القوات المسلحة والجيش وعودتها إلى وظيفتها العامة في توفير الأمن وحماية الوطن, وأمام هذه المسؤولية التاريخية والوطنية بالغة التعقيد استطاعت اللجنة العسكرية بحكمتها وخبرتها أن تنزع فتيل المواجهة, واستطاعت اللجنة أن تعلي من سقف الوطن على المصلحة الشخصية, وأن تقنع الكثير من القيادات العسكرية والأمنية بضرورة التغيير وسط مطالب جماهيرية وضغوط ودولية وإقليمية بتنحية تلك القيادات غير المرغوب بها والمتهمة بنهب المال العام, ومع كل خطوة اتخذتها اللجنة العسكرية كان المجتمع الدولي حاضرا, وأرسل جمال بن عمر يتابع ويشرف على الآلية التنفيذية ورصد المخالفات للجهات المتعنتة والرافضة للتغيير, ويؤكد جدية المجتمع الدولي في طي صفحة الماضي, والوقوف إلى جانب المطالب الشعبية بضرورة التغيير, وإزالة كل ما من شأنه إعاقة تنفيذ المبادرة والوقوف إلى جانب قرارات اللجنة العسكرية .
نقف أمام المحطة الأخيرة وهي تشكيل اللجنة الفنية للحوار الوطني باعتبارها المدخل الحقيقي للدولة المدنية, تشكلت اللجنة الفنية للحوار بقرار جمهوري, شمل جميع مكونات المجتمع بما فيهم الحوثي والحراك, لم تستثني احد من المشاركة, وأبدت قدرة في التواصل مع جميع المكونات وعبرت البحار وطوت المسافات, ووظفت إمكانياتها وخبرتها وتوظيف البلوماسية في الإقناع والمناورة والمحاورة لأجل إزالة كل أسباب الفرقة والخلاف, واستطاعت أن تبلور رؤى متقاربة لكثير من القضايا بين مختلف المكونات المشاركة في الحوار الوطني, سنرى نتائجها في الأيام القليلة القادمة.
ورغم أن الخطوات بطيئة وثقيلة تبدو للكثيرين, إلا أننا عندما نرى آثارها سنجد أننا أغلقنا تاريخاً من المعاناة والألم والانهيار لدولة كانت شبه مشلولة, واستطعنا أن ننزع فتيل قنبلة موقوتة من الفساد كانت ستنفجر في أي وقت ونعلن حينها أننا دولة منكوبة, ما تحقق اليوم رغم أنه لم أنه لم يكن في مستوى مطالب الثوار, إلا أنه عكس رغبة الكثير التواقين للتغيير, رغم أن الداء كان عصياً, إلا أن العلاج كان جرعا يوقف انتشاره وتفشي آثاره, المتضررون كثر وأصحاب المصالح ومن لايزال ممسكاً بمناصب عسكرية ومدنية يحن للماضي ويدافع عنه ويخاف التغيير أكثر, أرى أن الاستعجال والتسرع في النتائج سندفع ضريبته جميعاً, والوطن هو الضحية.
د/عبدالحكيم مكارم
محطات في الذكرى الأولى للمبادرة الخليجية 1973