لا أتوقف عن الترنم باسمها وأنا أتنفس هموم شارعها كل يوم أذوب أمام هيبة صمودها وشموخ صبرها وكأني ـ وأنا أسير على أرصفتها كل يوم ـ اسمع ضجيج خلجاتها يتدفق عبر ذرات الأثير في سمفونية حب تسكن قلب هذه المدينة ولا يشعر بها أحد، كأنني أراها في ثوبها الأبيض النقي في ليلة عيدٍ وطني يخجل وجنتيها السهر..
كأنني أرى إنكسار كبريائها عاثرة بين طيات التاريخ لأول مرة، كأنني أنصت لصهيل آلامها تمتطي ذروة الخوف عاتبة، حبيبتي تعز، مدينتي التي لا انتمي لها ميلاداً ومولداً لكنها شهدت حدث أمومتي أربع مرات ولهذا أحبها لأنني وعلى بساطها التعزي أصبحت أماً حتى وإن كان هذا الحديث قديماً إلا أنه يتجدد أمام ناظري كل يوم وأنا أعبر شارع جمال البسيط الجميل الذي نشأت بيني وبينه علاقة حب ثائرة!..
اليوم تحديداً وبعد أن انتهيت من عملي وقادتني قدماي إلى ذات الشارع تذكرت كيف أوشك هذا الشارع أن يكون حطاماً يوم نسينا حق الله ثم حق الوطن، أؤمن دائماً أن ما أصاب وطني من صنع يدي ويدك ويدها، نعم ما أصابنا من صنع أيدينا، فقد تركنا العظيم وتمسكنا بتلابيب الحقير حين عظمت في أعيننا الصغائر وصغرت فيها الكبائر، تنصلنا عن إغاثة المستحق وأغمضنا أعيننا عن بطش الجبابرة ومصاصي الدماء والحفاة الرعاة الذين تطالوا في البنيان دون أن يضعوا له أساساً، مات الفقير ينهشه المرض وبات الجار جائعاً تقظ مضجعة حمى الجوع وباتت النساء يأكلن بأثدائهن ورعينا حول الحمى حتى وقعنا فيه..
فأين هو الحاكم العادل الذي لا يترك للشر فرصة الاستشراء ولا يمنع الخير من حرية البقاء؟ أين هم الرعيةُ الأحرار الذين عموا وصموا ثم عموا وصموا يوم كان الوطن يستغيث بأهل النخوة والكرامة والفداء حتى وجد الاعداء أبوابنا مشرعة ومنافذنا بالخيانة مترعة، اغتصبت فتياتُ البسطاء وانتشرت بين أطفالنا الرذيلة في أبشع صورها والحاكم في غفلةٍ عن أمر المحكوم يفقأ عين الحقيقة بسهم التسلط وتغليب سلطة القانون، القانون الذي وضعه البشر هروباً من ظلم البشر فإذا بالجميع يقع ضحية لهذا القانون الذي جمّد أحكامه في هامش لفظي بعيد عن اغلب ما جاء في قانون السماء العظيم، قرآننا الكريم..
الله ما أقسى قلوب البشر وما أعظم حلم الله عليهم، قلتها في نفسي بعد رحلة ذهابٍ وإياب على شارع المدينة العتيق الذي ضم أحداثاً وأمنيات وإرهاصات وتحديات عامٍ منصدم لكنه لا يزال على أهبة الاستعداد لاستقبال مرحلة وطنية مدنية جديدة ينبغي أن لا يكون البرود أخذ أدواتها المستخدمة لتفعيل آلية وجودها كمرحلة سياسية وليدة على مجتمع الأطياف.
ألطاف الأهدل
تعز التي في خاطري وفمي.. 1956