من أغرب ما رأيت من أمر المعاقين وأصحاب الآهات والعاهات العتيقة على أرصفة تعز صاحبة الهم الأكبر من الفقر والجوع والاستئثار بالألم، رجل ذو ساقين بلا قدمين يرفعهما عن الأرض الموحلة بأنواع البلايا عبر عكازين خشبيين من أقدم من رأيت من أنواع الحوامل المساعدة على الوقوف والسير لذوي الاحتياجات الخاصة.. الغريب أنني لم أرى هذا الرجل يتسول شأنه شأن الكثيرين من هؤلاء المرضى المبتلين بسقوط أطرافهم المتحركة في بحر الإعاقة أو حتى أولئك الذين لهم أطراف وأعضاء سليمة ثم يمتهنون الفقر أو الاستفقار بأشكال فنية شديدة وكأنها مناهج دراسية موضوعة بعناية للسيطرة على مشاعر أصحاب القلوب الرقيقة التي لا تحتمل أن ترى مسحة اليأس على وجوه الضعفاء.
وجدته يعمل في أحد الأماكن المكتظة بالعاطلين عن العمل والذين يجلس أكثرهم على الرصيف بمنتهى البؤس وقد ملك بقدرة من الله أطرافاً وحواساً ثاقبة الوعي ولم ير من الكأس إلا نصفها الفارغة، رأيته يعجل ويتصبب عرقاً ويحاول إنجاز مهامه بكل ما أوتي من قوة، مرتكزاً على قوة كتفيه ومسترشداً بطاقة داخلية عظيمة هي من منحته هذا الزخم من الحماس والاندفاع نحو الإنجاز.
رأيته يتصبب عرقاً وابتسامته لا تفارق شفتيه ولعلها كانت المرة الأولى في حياتي وفي هذا المجتمع تحديداً التي أرى فيها صاحب عاهة قوية بهذا الشكل يبتسم وكأنه أوتي من خير الدنيا وزخرفها وقناطيرها الكثير الكثير.
رأيته يتخطى عقبة التواصل مع الآخرين عبر عكازين خاليين من الشرايين والأوردة ولتيرات الدم المتدفقة بحرارة، لكن دون جدوى..
رأيته يتعامل مع هاتين القطعتين الخشبيتين كقرني استشعار يتحسس بهما الأرض ويتلمس بهما وعبرهما ذبذبات الإرادة التي تشحنه بحب البقاء والرغبة في الحياة أياً كانت شاكلتها، الإرادة ليس لها أطراف وإلا لكان بعض البشر بتروا أطرافهم عنوة لأن من الناس من يرى الحياة عبر ثقب الإبرة، ومنهم من يراها كالشمس لا يمكن أن تغيبت إلى الأبد كما أنها لا يمكن أن تشرق إلى الأبد وشتان بين من يحيط قلبه بذراعيه ومن يبقيه رهينة في أيدي الآخرين..
رأيته لا يخاف السقوط كما نخاف نحن ولا يخشى الوقوف من جديد كما نخشى ذلك نحن، رأيته يعيش كروح يسكنها جسد ولم أره كجسد تسكنه روح.