في بداية انضمامي لقافلة النساء الباحثات عن ماء المفردة كنت أموت رعباً في كل لحظة أعيش فيها وحيدةً في ظل أوراق دفاتري وأكاد أغرق في ماء عيني وأنا أتحسس ضميراً واحداً من حولي ينبض بالإنسانية فلا أجد، كنتُ أمرُّ على الأرصفة كطفل يحتفل بأول خطواته على الأرض متعثراً بصرخات من حوله وعاثراً بفرحته التي تدفعه غالباً للسقوط، كنت كعفريت المصباح الذي يحتفل بخروجه من سجنه بكذبة كبيرة "شبيك لبيك...."، كنت أعتقد أنني سأصلح الكون، ثم تراجعت حتى صرت أرى أن بإمكاني أن أطلق صرخة حق مدوية وبعدها ليكن ما سيكون، ثم تراخيت وأصبحت دجاجة تبحث عن كوخٍ آمن لتؤي صغارها ولكنني اكتشفت مع مرور الأيام أنني تحولت عبر مسلسل الصمت ذاك إلى نعامة تدس رأسها في التراب لكن بدون مبرر!..
كنت امرأة من الزجاج ولكنني أشعر اليوم أنني أصبحتُ امرأة من الفلّين! أصمت كما يصمت الكل من حولي من آهات المتعبين وآلام الجائعين، أصمت عن أطفال الشوارع الذين تدس الليالي في أوعية بطونهم سُمّ الفاقة وهوان الجوع، أصمت عنهم وعجلات الكبار تدهس أحلامهم بالدفئ في كل موكب يدخل إلى ساحة التاريخ متأبطاً قوانين الطفولة، ثم لا يلبث أن يترك الساحة منثقلاً ذات القانون وباصقاً في وجوده المشردين بلُعاب الخطيئة وكأن كل ما لعقتهُ ألسن الهم والكدر ليس بإنسان، وكأن البشر هم فقط من يسكنون القصور ويستقلون العربات الفارهة ويغيرون ألوان أجسادهم إلى البرونز على سواحل المدن الأوروبية التي لا تحتجب فيها الشمس ولا ينام عن مدنها القمر!.. هؤلاء فقط هم البشر وما دوهم من دواب الأرض الناطقة التي تسير على الاثنتين ليسوا بشراً، وكأن هذه العدوى انتقلت إلي وصرت أرى البشرية محصورة في قصر وعربة وصولجان، كأني ما عدت تلك التي اعتلت منابر الطفولة لتحاول أن تمسك العصا من الوسط، كأنني خرجت من جلدتي كما تفعل الأفاعي حين تصبح ناضجة بما يكفي لتتزين بالعُري وتتجمل للعراء!... أصبحت مثل هؤلاء الذين يجوبون شوارع المدينة بوجنةٍ محشوةٍ بالعشب، سُكارى وما هم بمُسكارى، يتمايلون كما يتمايل مزماز الحكم ثم يعودون إلى جعاب المساء بخفي حُنين!.. فمن لآهات أولئك المعدمين وصرخات المسحوقين وأنّات الجائعين إن لم يكن بيننا من يملك قلب أثنى وجسد رجل؟! هل أصبحت العدالة مستحيلاً في موكب الغول والعنقاء والخل الوفي؟!.
أحلم بمنظمة إنسانية واحدة تنصف أطفال الشوارع من ذئاب الليل وكلاب النهار البشرية، فأين أجد تلك المنظمة التي تعمل أكثر مما تقول؟!.
ألطاف الأهدل
تراهم سكارى وما هم بسكارى! 2526