في الحياة الكثير مما يمكن أن يوصف ببعض الفرائد والكلمات وفيها ما لا يمكن أن يوصف بأدق مفردات اللغة وأكثرها تأثيراً، الجوع مفردة من تلك المفردات الصعبة التي لا تتحمل رؤية آثاره مشاعر الإنسان لأن للجوع تقاسيم بشعة وتضاريس وعرة لا يمكن أن تتخيلها ذاكرة إنسان عاش مترفاً راقصاً على أنغام التخمة والشبع، والجوع رياح عاتية تجتث جذور الطمأنينة والرغد وتنحت جسد القناعة والاكتفاء كما تنحت عوامل التعرية صخور الأرض على مر التاريخ، لكن ولأن الإنسان ليس صخراً فإن أياماً من الجوع قد تكفي لأن يصبح مخلوقاً آخر!.
رأيت ذلك في وجود وأجساد الكثيرين هنا داخل هذا الوطن الذي لم أتصور يوماً أن يكون فيه للجوع نصيب عندنا حتى أنني كرهت اللحظة التي ترتفع فيها ملعقة الطعام إلى فمي وفي وطني من يعاني وطأة الجوع وقهر وذلة.. الجوع صاعقة تصيب هزيل الأجساد ومريضها حتى تخر الأرواح منها راحلة في غمضة عين، الجوع خواء الجوف من لقمةٍ قد يراها بعض الجاحدين نقمة، وهو ذلك الشعور الذي يحفر ظاهر الإنسان وباطنه لاهثاً خلف سبب هام من أسباب الحياة وهو الشبع، الجوع آلة نخر صاخبة تحيل هذا الجسد الطري الغض إلى عصىً يابسة يمكن أن تنكسر بسهولة لأنها خاوية تماماً من الداخل.
للجوع أسواق تختارها المشيئة وتحط رحالها فيها المقدرة ولا أطن أن شيئاً قوياً يقف خلفها مثل الانحراف عن طريق الكتاب الذي جعل للنجاح نصيباً من طعام الشباع، وللفقراء من مال الأغنياء وللمرضى حقاً من عافية الأصحاء، لكن لا أحد يؤدي أمانة العطاء كاملة كما قال الله وهذا من عظيم ظلم الإنسان لنفسه ولسواه لأنه يبخل بما ليس له بحق ويمن العطاء عن من هو مستحق، وكما أن للجوع أسواقاً فإن له بضائع كاسدات، فمن كفر وفقر إلى لحدٍ وقبر، ومن قلة حيلة إلى التواء الوسيلة، ومن شرود وذهول إلى فناء وأفول، ومن انطراح على أرض الرذيلة التي استبطانٍ لمعاني الفضيلة، ومن سقوط تعقبه تنازلات جسام إلى استعلاء للقيم يذيب الأجسام، صراع بين مادة وروح أشد غليناناً من حمم البراكين، لكن لا أحد يشعر به إلا هو لا العاثرين ممن لا يسألون الناس إلحافاً بل يظل تعلقهم قائم بمالك الملك، صاحب خزائن السماوات والأرض.
الجوع ليس ملعقة للفضيلة، ولا سكيناً للرذيلة، بل هو مائدة عامر بالمتناقضات التي تخوض فيها الفضائل والرذائل، معارك محمومة تشبه تماماً معارك الخير والشر التي تدور بين البشر والشياطين منذ أن يغادروا أرحام أمهاتهم حتى يسكنوا أرحام الأرض، ولهذا يقال إن: الجوع كافر، لأنه يدفع الإنسان للاعتقاد بالخطيئة أياً كان نوعها محجمها وكأنه يجد فيها مفتاحاً للشبع وسد الباب الحاجة.. فإلى كل مسلم يشهد بأن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، تفقدوا من حولكم من الجياع حتى لا تكون خطيئاتهم معلقة في رقابكم إلى يوم الدين لأن غفلتكم من الإحسان إليهم هي من دفعتهم للبحث عن طريقٍ آخر..
ألطاف الأهدل
بضاعة الجوع.. 2018