نقف دون شعورٍ منا أحياناً على قبر الماضي، مستعصمين بتلك الندوب والآثار التي تركتها طعنات الماضي ولم تفلح الأيام أن تمحو آثارها المنحوتة بسخاء هنا وهناك على سبورة الجسد بعشوائية الريح وقوة الموج وغموض القدر.
كل ذلك يجعل تلك الوجوه المريضة والمحمومة بالأمنيات إلى عالم الواقع وثبة مستحيلة ولهذا نفشل كثيراً ونهفو أكثر في دوامة البحث عن ذاتٍ أخرى نظيفة لا تسكن أصقاع المستحيل هاربة ولا تصطدم بجدران الحاضر تائبة، لهذا كان من قمة العقل أن تبقى أيدينا حُرة بالأمل غير مقيدة بالذهول عن الواقع بكل ما فيه من خير وشر.
نعم.. قد نجد ما يذيب جبال الشموخ فينا، نعم قد نرى أقسى وأنكل صور الحرمان أمام أعيننا، نعم قد نفشل في الذوبان داخل مجتمعاتنا وهي تزفر الشقاء وتشهق العناء خارج نطاق الاستطاعة والاقتدار، قد نجد الكثير مما ينكس إنسانيتنا ويشهر تلك الوحشية النائمة فينا ولكنه لا يدفعنا لتقديم استقالتنا من مؤسسة الحياة التي نعيش.
أتحدث عن أشخاص موتى بثياب الحياة، مرضى وهم يرتدون غشاء العافية، فقراء وهم يتسربلون برداء الستر والغنى، مشردين وعندهم أبراج مشيدة، جائعين ولديهم الكثير مما يشبع الجوف... أشخاص ماتت عزائمهم لأنهم لا يرون أمامهم إلا هزائمهم، تاهت قدراتهم لأنهم عاشوا أسرى قذارتهم، جياعاً للنخوة عطشى لروح المبادرة ولا يلتحمون بجغرافيا الجسد إلا في لحظة خضوع قسرية لومضة غريزية ساحقة.
هؤلاء يعيشون بين أكفان الماضي ولا يتمتعون بروح المغامرة التي تدفعنا جميعاً لتجاوز عقبة المستحيل سواءً كان هذا المستحيل بشراً أم شجراً أم حجراً، حلماً كان أو حقيقة، واقعاً كان أم خيالاً، ولهذا أتحدث مع أصدقاء الحزن وأرباب الأسى عن تقنية نفسية ليست بجديدة، لا في هيكلها الحرفي فقط، (أقلب الصفحة) جملة رائعة أقولها لنفسي حين تتوقف مكنتة الإدراك في داخل وجداني، عاجزة عن أن أحلب شاة الذاكرة واحتسي لبنها! أقلب الصفحة حين تجد تلك الشاة جافة الضرع، هزيلة الجسد، أقلبها حين تتوقف حواسك عن الإرسال أو الاستقبال، أقلبها حين تشعر بأن التشويش بدأ يصادر ألفاظك وبمحو جاذبية مفرداتك ويجعلك حقلاً شائكاً أمام توقعات الآخرين..
أقلبها حين تجد الملح قد غلب على الشكر، وأرغفة الخبز الساخنة تحرق أصابعك دون أن تشبعك، وشفة الماء العكرة تغص حلقك، أقلب الصفحة حين لا يُعد للصمت مكان ولا للكلام أزمان، أفعل ذلك كل ليلة حين تأوي إلى فراشك وقد أثقلتك الهموم حتى تسطيع أن تستيقظ كل صباح وأنت تقف على صفحة بيضاء جديدة وناصعة تسطرها أصابعك المتحررة من أغلال الأمس القريب.
ألطاف الأهدل
فضلاً.. أقلب الصفحة! 2358