كان هيكله الأحدب مثيراً للدهشة، فهل يمكن لعود الإنسان الغض المتمايل أن يصبح مقوساً إلى هذا الحد؟! هل كانت فكرة الأراجوز مستوحاة من لقطات ضعف الإنسان حين يتحول من كوب شاسع بفكره وآرائه وأطروحاته العقلية ومساحة الجسد العجيب المخلوق في أحسن صورة إلى مجرد ورقة ملفوفة بعناية إلهية فائقة؟.. كان بائع سواك متجولاً، شيخاً كبيراً، رأيت فيه تحفة بشرية رائعة أبدعها الخلاق العليم رب العرش الكريم، يسعى ليطعم جوفه بإحياء سنة نبوية عظيمة يغفلها كثيرون اليوم وهي السواك الذي قال عنه صلى الله عليه وسلم (السواك مطهرة للفم مرضاة للرب) أو كما قال صلى الله عليه وسلم، وبالرغم من سنه الكبير وجسده المحدب وأطرافه المرتعشة وخطواته المتقطعة، إلا أنه يعرض بضاعته بابتسامة آسرة ومخجلة وودت لو أنني لم أره أبداً ولم ألقه حتى لا تبقى صورته معلقة في ذهني شأنها شأن صور كثيرة لمسنين كبار أراهم يجوبون الشوارع بحثاً عن الزرق ببضاعة مزجاة أو بدون بضاعة، لأنني أبقى حائرة أمام سؤال لا أجد له إجابة إلا أن أقول "لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم".
أين هم أبناء هؤلاء العجزة والعجائز؟! أين كانوا قبل أن تلتقفهم هذه الأرصفة والزوايا؟! أليس لهم أسر؟! أليس لهم منازل؟ هل يمكن أن يلقى أحدهم حتفه على هذه الأرصفة دون غذاء أو دواء أو فراش دافئ أو إنسان يلقنه الشهادة ويخفف عنه رهبة الموت وحيداً؟! كيف وأين عاش هؤلاء منذ زمن؟!.
يا لهذا الضعف الذي يغلف حياة الإنسان ويا لهذا الرخص الذي يتعامل به البعض مع أبويهم، ذلك الشيخ المسن جملت قسماته وقاراً من نوع فريد وكأنه عاش ناسكاً في صومعة بعيدة لدرجة أنني بدأت أتساءل حين وصلت منزلي: هل كان ذلك العجوز من بني البشر أم أنه كان من بني الجان؟! لقد حمل جسده المقوس سنيناً من العمر طوال، لكن لازالت أسنانه البراقة التي ظهرت خلف ابتسامته الخجولة مكتملة، ولديه هالة قبول رهيبة، لديه كاريزما عفوية، لا أعتقد أنه ترك السواك يوماً، أو تأخر عن أداء الصلاة ساعة، أو دخل جوفه فلس من الحرام، لأن ذلك القدر الكبير من الرضا الذي يغمر تقاسيمه يوحي بكل ذلك، حين رأيته تذكرت حال شباب كثيرين عاطلين عن العمل أو يتعطلون عن العمل، متسكعين على الأرصفة بثياب تحاكي حضارة مجتمعات لا تمت للدين بالصلة، يزينون صدورهم ومعاصمهم بأساور حديدية لا معنى لوجودها وكأنهم فتيات مراهقات، يحملون أهلهم وذويهم هم البحث عنهم كل ليلة وهم يشربون من كأس الخطايا صغيرها وكبيرها دون وجود وازع أو ضمير.
ذلك الشيخ ذو الجسد المحدب علمني درساً مهماً في الحياة، أن العمل لا يتوقف إلا حين تتوقف حياة الإنسان وعلمني أيضاً أن الرضا كنز والعافية غنى والابتسامة في وجوه الناس فعلاً أعظم صدقة.
ألطاف الأهدل
كان بائع سواك!! 1963