الحياة مرة أخرى هنا، ولكنها من أضيق المساحات والتي قد تخنق كما نظنها..
بدا المنزل لافتاً، فبين المنازل الحديثة يرتكز كوخ صغير (كما بدا لي) وهو عبارة عن منزل صغير جداً وبسيط جداً، نصفه (بلوك) والنصف الآخر (حَجر) فوق بعضها ويغطيها صفيح (زنج) كبير، لفت نظري حيثما كنت أقف أن المنزل محاط بالطرابيل حماية من وصول المطر لداخل المنزل.. مساحة المنزل لا تتعدى خمسة متر ، يحيط بإحدى جوانبه ما يزيد عن عشرين (دَبّه) لنقل الماء تقريباً، وعلى الجانب الآخر (حَول) كما نسميه وهي مساحة صغيرة جداً مزروعة نبتة النعناع و مشاقر.
استدعاني حب التأمل والتفكر إلى أن أقترب أكثر من ذاك المنزل فلربما لامستني رائحة زكية لطالما بحثتُ عنها في وجوه البسطاء، فإذا بي أسمع على مقربة سنتيمترات من المنزل صوت أنثوي وكأنه يغني بأريحية، وبتُ ألتفت يميناً ويساراً أبحث عن شيء صلب أسند ظهري عليه، وما أن اتكأت قليلاً على جدار حتى خفت الصوت ثم غاب نهائياً.
الوقت الذي استغرقته في التفكير حينها هو نفسه الذي استغرقته قدمان اتجهت صوبي وفيما كنت ألملم أطراف عباءتي سمعت ذاك الصوت يحدثني (خوفتيني حسبتك مُعجب بصوتي ..كأنك غريبة عن الحارة من أين أنتِ يا بنتي ؟) وأكملت ..يبدو أنك من ذاك البيت الجديد سكّانه حديثين في الحارة؟
ابتسمت ووجدت الإجابة في ابتسامة عريضة سبقت جملتي (أنا عطشانة)..
صرخت بإحدى ابنتيها لتناولني كأس الماء من الداخل ، وكأي حديث بين غريبتين بدأ بالتعارف ولعل لهجتي اختصرت عليها الكثير من الأسئلة حتى وصلنا إلى الحديث عن الحياة وبتُ أنقب بين مفرداتها عن غصة أو تأوه لأتخذ طريقي في مشاركتها ذات المشاعر والتخفيف عنها فلم أسمع منها إلا كلمات بيضاء ممهورة بابتسامات لم أشهدها من قبل إلا في وجه السماء بعد المطر !.
أسرعت بسحب تركيزي حينها من مغبة الشرود والتفكير فيما إذا كانت الحياة في خرم إبره مثلاً هي ذاتها على سطح القمر ! ، لم تعد متعة الحياة تُقاس بالمسطرة، وباتت تتنفسنا قبل أن نتنفسها ، الحياة المريحة لم تعد تكلف الكثير ولم يعد المال أو السفر كما يظن البعض هو متعة الحياة ، القناعة هي الحياة بعينها وهذا ما لمسته فعلاً في ذاك المنزل فغرفة واحدة لَمّـت شعاث القلوب، وحوت الضحك والمرح والدموع أيضاً الذي لم أكد أراها تختنق بعيني الأم سوى حول علب أدوية عرفت فيما بعد أنها لرب البيت المريض بالضغط والسكري ..
هل يعقل أن تضحك الدنيا على الكثير بدلاً من حدوث العكس أم أنهم وحدهم من فهموا حقيقة الحياة عميقاً فيما تركوا للبقية قشورها ظناً أن الحياة تتمركز هناك.
ما لمسته من خمسة أفراد يقطنون ببقعة تشبه خرم الإبرة، ويلتحفون السعادة ويبثون الحب ، يدسون المعاناة في أفواه الجدران، وثقوب السقف جعلني أعيد التفكير كثيراً ..وفقط بالصبر والقناعة لم تعد مشاكل الحياة المؤرقة هاجساً لديهم بل باتت لهم دافعاً للوصول إلى أحلامهم ! .. نعم حتى أحلامهم عميقة كذلك ولكنها مُرضِية فالأم تحلم بزيارة البيت الحرام مع زوجها بعد أن تطمئن على بنتيها وتقصد هنا الوظيفة لا الزوج ،كما عقّبت ضاحكة، أيضا تتمنى أن لا تتسع الحياة في عيون أبنائها فعلى حد قولها الحياة حينما تتسع تكثر مطباتها وتصعب كثيراً ..
في آخر الحديث الجميل والطريف في بعض محاوره تمنيت لو أن لي علبة كبريت أسكنها وأشاطر هؤلاء بعضاً من روائح السعادة، والتي علقت بأطراف ذاكرتي وانعجنت بها بعد أن غادرت ذاك المنزل وأنا في غاية السعادة .
أحلام المقالح
الحياة في خُرم إبرة!! 1785