لا يتوقف الإنسان عن رسم أمنياته على كراسة الذاكرة مهما كانت بساطتها ومهما كانت سذاجتها في بعض الأحيان، ولأننا نعيش واقعاً غامضاً من التطورات اللامحدودة واللامنتهية من الأفعال وردود الأفعال السهلة والصعبة في أغلبها، نحاول أن نؤطر تلك الأحلام والأمنيات بشيء من الواقعية والعقلانية لدرجة أننا نشعر بالافتتان حين ننجح في استخراج فكرة ما بسيطة جداً من بين ذلك الركام المتنامي في أعماق الذاكرة بعد أن نفشل مراراً في استرجاع أدوات الوصول من مرآب إرادتنا الراكدة.
ذلك الاسترسال في طرح أفكارنا يسمح لنا باستعراضها مراراً مع تجنب تكرارها أو ذوبانها في أفكار الآخرين.. وإذاً فأفكارنا من صنع هذا الواقع الكبير الذي يغرقنا بسيل جارف من المعلومات عن كل ما هو متاح أمام أعيننا، أما تلك الأفكار التي تزورنا من عالم الغيب أو الخيال أو اللا معقول، فإنها لا تستمر بالبقاء كفكرة واضحة، لأن لها أجنحة عالقة في سماء المستحيل ولهذا من الصعب أن تبقى حبيسة الفكر أو رهينة الواقعية.
لكن كيف تتحول الأحلام إلى حقائق ووقائع؟! هل يتوفر للحلم بنية خصبة للظهور كواقع؟! أم أن الواقع مجرد فكرة من صنع الخيال؟! طبعاً وبالاعتماد على هذا النسق الطبيعي الذي تعيشه كل يوم بتفاصيله الباهتة أحياناً، فإن الحقيقة العلمية تقول: "لا شيء يفنى ولا شيء يستحدث من العدم، وبهذا يكون خيالنا من صنع واقعنا، وواقعنا نتاج لسعة خيالنا، وبالاعتماد على هذه الحقيقة العلمية الصرفة نجد أن آليات وأدوات النجاح متاحة باستمرار لمن يجيد فن التنقيب عن ذاته ويبرع في عرض منجزاته ويسيطر تماماً على مساحة أخطائه الطارئة.
والواقع مشحون بروعة الفكر والأداء والعقل وحده من يستطيع التمييز بين ما يخدم وجود الفكرة وما يلغي وجودها وينفي بقاءها، ولعلنا نقف في منتصف المسافة تماماً بين إنجاز منظور وآخر لا يستحق التعريف.. هذا يحدث فقط حين نملك القدرة على تقدير الذات وفهم المتغيرات التي تساهم في إثرائها وتطويرها ونقلها من مربع الإدراك إلى مربع صنع القرار والقدرة على تغيير مسار الحدث والسيطرة على اتجاهه وأعتقد أن من أسوأ ما يمكن أن يقترفه الإنسان في حق نفسه أن يتجاهل ذاته ويغفل عن اكتشاف نقاطها السالبة والموجبة، لأن هذا يؤدي إلى بقائه تابعاً لسواه وقابلاً للتشكل وفق إرادات غيره.
ولهذا يجد الكثير من الناس أنفسهم أمام قرارات أو خيارات مرفوضة صنعتها أيديهم دون وجود قناعة كافية بها من داخل أنفسهم، والأسباب لا تقف عند مرمى التواتر الإنساني وإسقاط فلسفة الذات على الآخرين، بل تتعداها إلى الإيمان بقناعاتهم وتهميش وجود الأنا الفردية وسحق معالمها ومن هنا تتلاشى هالة تقدير الذات وينطفئ وميضها.
ومهما كان واقعنا زاخراً بآليات الريادة والتميز، لن نستطيع أن نكون مبدعين دون وجود فكرة تحتضن تلك الآليات ودون وجود ذات موازية لقيمة الفكرة المختزلة في أيقونة سلوكية مدروسة بمنتهى الدقة.. وإذاً فالإنسان كقالب سلوكي منمط وكعقلية تسكنها فكرة منسقة وواقع غني باعتبارات مادية ذات قيمة إنسانية مفعلة، كل ذلك أسباب لنجاح طموح أو تحقيق حلم أو وصول لغاية كانت عبارة عن مجرد نقطة التقاء خافتة بين خيال خصب وواقع أكثر خصوبة، لكننا قد لا ندرك ذلك بوضوح منذ الوهلة الأولى التي يعانق فيها خيالنا هذا الواقع الرحب الفسيح.
ألطاف الأهدل
هل نصنع خيالنا أم إنه يصنعنا؟! 2191