لا ريب في أن تجربة حضرموت طوال سنوات إخضاعها لنظام حكم دولة الجنوب (1967م-1990م)، كانت قاسية ومريرة وزاخرة بالمآسي والفضائع والنكبات، حيث جرى وعلى نحو متواصل استهداف ألقها، وتقويض بناها، وتصفية رجالها ومرجعياتها العلمية والاجتماعية، وتشريد أهلها، والتجهيل بتاريخها وأدوارها، ونسف ما تراكم لها من توجهات وتحولات مدنية، وفرض التبعية المقيتة عليها، مع مصادرة كل حقوقها في امتلاك الفعل المؤثر في صناعة القرار وفي منظومات الحكم التي استبدت بالجنوب..
ولا شك في أن تلك التجربة قد أورثت حضرموت من الجراح والآلام والانكسارات والفواجع، ما راكم في نفوس الحضارمة الرفض القاطع لأي دعوات تستحثهم لتجريب المجرب، أي العودة لخوض غمار تلك التجربة المؤلمة، بالقدر ذاته الذي يجعلهم ويجعل الجنوبيين كافة يرفضون الاستمرار في تجربة الوحدة اليمنية التي تحولت إلى احتلال واجتياح وإخضاع.
أقول قولي هذا في لحظة تضج فيها الساحات الحضرمية والجنوبية واليمنية بصخب حراك سياسي متعدد الأوجه، فجرته تفاعلات صراع رأسي وأفقي متعدد الأطراف والأهداف، سيفضي دون شك إلى رسم خارطة جديدة، والتأسيس لعلاقات جديدة أيضاً قد تقوم على صيغ تفكيكية أو توحيدية فعالة وقابلة للاستمرار.
ومن هنا أحسب أن أبناء حضرموت مطالبون بالخروج من حالة التشتت التي تستبد بهم في هذه الأثناء، والتي من شأنها إضعاف حضورهم، إن لم يكن تغييبهم تماماً في التسويات المحتملة، ومن ثم تأبيد تبعيتهم للآخرين، ولعل خروجهم من حالة التمزق تلك، يستدعي بالضرورة تمتع نخبهم السياسية والمثقفة بقدر كبير من الاقتدار على القراءة العميقة والصائبة للمعطيات الداخلية والخارجية، والتعاطي باحترافية سياسية مع ما يتفاعل من اهتمام إقليمي ودولي بالقضايا الشمالية والجنوبية، والعمل بجدية وإتقان لتمكين حضرموت من حقها في أن تكون فاعلة بقوة في أي تسوية قادمة.
وهنا تبدو الحاجة شديدة إلى أن نتخلص – نحن الحضارمة - من اندفاع بعضنا لفك ارتباطنا بالقضية الجنوبية، بدعوى أن هذا الارتباط من شأنه أن يسوق حضرموت مجدداً إلى مهاوي تجربتها المريرة الماضية مع دولة الجنوب، وهو أمر لن يتكرر، لأن تجربة الدولة الجنوبية الماضية أنتجتها عوامل إقليمية ودولية لم تعد قائمة اليوم، ولن تتكرر فاعليتها غداً، فضلاً عن أن موجبات العصر وسماته وما يحكم توجهات الإقليم والعالم اليوم، لن يدفع إلا إلى إنتاج جنوب جديد على أسس وقواعد جديدة، إذا ما قدر للجنوب أن يستقل عن الشمال، ثم أن ما قاست أهواله حضرموت إبان الحكم الاشتراكي الشمولي في الجنوب، هو نتاج النهج الدموي والاستبدادي لذلك النظام الحاكم، ومن ثم فإن ذلك لا يسوغ ذهاب البعض للزعم بأن ذلك هو نتاج ارتباط حضرموت بالجنوب، وبموازاة ذلك فإن توثيق ارتباط حضرموت بالقضية الجنوبية وتعزيز دورها الريادي في قيادة مواكب الجنوبيين لانتزاع استقلالهم، وبعدئذ في وضع الأسس للدولة الجنوبية المنشودة التي لا تداخلها أي نزعات إخضاعية أو إقصائية أو استبدادية، هو ما سيجتث أشباح التجربة الجنوبية المأساوية التي قوضت الوشائج بين مكونات الجنوب وأثخنت الجميع بالجراح والإحن والمحن.
نعم، هناك قضية حضرمية وقضية عدنية في إطار الجنوب، ويتعين على كافة الجنوبيين أن يتفهموا لهما، وأن يبدوا من خلال قواهم السياسية والاجتماعية التزامهم بالعمل على أن يؤسس استقلال الجنوب لدولة جنوبية اتحادية جديدة تؤمن لكل إقليم حقوقه في الشراكة الفاعلة وفقاً لمعايير السكان والمساحة والثروة والموقع والدور الحيوي، وأن تجسد التوازن السياسي والاقتصادي والاجتماعي بين كافة مكونات الجنوب، وتبادلية المصالح والمنافع دون انتقاص أو استحواذ أو هيمنة، كذلك فإن قوى الحراك السلمي الجنوبي مطالبة أيضاً بأن تعلن وعلى نحو صريح وواضح وقاطع تبرؤها من تجربة الدولة الجنوبية الشمولية السابقة، وتبنيها لمشروع جنوب جديد وفق ما أسلفنا، وأن تجسد إعلانها هذا بوقف كل ما يصدر عنها من أقوال أو أفعال توحي بتمجيدها لتجربة الدولة الجنوبية السابقة، واحتكامها للعقلية الأحادية التسلطية التي ساقت الجنوب وأهله من كارثة إلى أخرى، وأن تدين أي نزوع من أي جهة كانت لفرض الوصاية على الجنوب وأهله، مع الإقرار بأن شعب الجنوب هو المرجعية وهو من يقرر مصيره، ونعتقد جازمين أن من شأن ذلك كله أن يزيل الكثير من المخاوف والتوجسات التي تحد من انخراط قطاعات واسعة من الجنوبيين في مواكب الثورة السلمية الجنوبية، وتدفع الكثيرين لتبني مواقف متحفظة أو رافضة لاستقلال الجنوب، بل وتتيح لقوى السلطة المتصارعة في صنعاء مساحة لشق صفوف الجنوبيين، من خلال توظيف رفض قطاعات من أبناء الجنوب للتجربة الاشتراكية السابقة، لحملهم على الوقوف ضد التحرر من ربقة اجتياحهم للجنوب، بحجة أن الفكاك من ربقة تسلطهم لن يقود إلا إلى هاوية تلك التجربة المروعة، وفي ذلك كله ما يضعف الاصطفاف الجنوبي في مضامير النضال السلمي الهادف انتزاع استقلال الجنوب، وما يتيح لتلك القوى مجالاً واسعاً للعبث بعدالة القضية الجنوبية، وإيهام العالم بأن الجنوب سيكون مرشحاً للتشظي إذا ما تأتى له الفكاك من ربقة الهيمنة الشمالية، ولعل في أقوال بعض من قيادات صنعاء التي حذرت من أن الجنوب سيتمزق إلى دويلات في حالة تحرره، ما يكفي للتدليل على ما سلف.. ولله الأمر من قبل ومن بعد..
علي الكثيري
عن حضرموت والجنوب 1621