من مقتضى الطبيعة البشرية أن يحب الناس ويكرهوا لدوافع عندهم؛ لكن أن تصير الكراهية ثقافة وسلوكاً تهيمن على طريقة التفكير والتعامل إنها عندئذ ـ والعياذ بالله ـ آفة هوى أخلاقية وعقدة مرض نفسية، لاسيما حين يتبناها الخاصة كرؤية واقعية وشرعية، فتظهر آثارها السيئة في انشغال أهلها بالتبديع والتضليل والتنازع والتشرذم وتؤثر سلباً على التفكير والتحليل واتخاذ المواقف والقرارات لدى النخب الفكرية والأحزاب السياسية، فتنحرف البوصلة ويضطرب المعيار ونخطئ الهدف ويضيع الطريق ((ومن أضل ممن أتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الضالمين)) وربما اتخذت هذه الثقافة طابع العصبية القبلية والعنصرية المناطقية والتي وضعها رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت قدميه الشريفتين وقال: (ما بال دعوى الجاهلية، وأنا بين أظهركم؟ دعوها فإنها منتنة، وفي رواية: خبيثة) متفق عليه، فتظهر ثمارها المرة في تمزيق الوحدة الوطنية والنسيج الاجتماعي والأمن والسلم الداخلي وقطع معاقد الولاء والبراء والأخوة الإسلامية قال سبحانه (إنما المؤمنون إخوة) (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض) وقال تعالى (....إلا تفعلوا (المولاة الإسلامية) تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) ومهما تدثرت هذه الثقافة الهدامة بعباءة القومية أو الوطنية وعدالة القضية، إلا أنها ممارسة مفضوحة لمنهجية الإقصاء وعدم اعتبار الرأي الآخر والقبول به والتعايش السلمي ومنهجية قمعية استبدادية لا تنتمي لمنهجية شرعية ولا حرية ومدنية وديمقراطية والأخطر أنها تمكن لفلول وأنظمة حقها أن تحاكم لا أن تحكم.
وربما تذرعت هذه الثقافة بحمل رأية تطبيق الشريعة ولم تعتبر بمرجعية العلماء العلمية ولا القواعد والأصول السياسية والمصالح الشرعية، فزاولت أعمال العنف والقتل وخدمت مصالح الأعداء ولو عن حسن نية أو اختراق جهات مشبوهة مع أن الشريعة بريئة من مظاهر أعمالها وأعم مدلولاً من مجرد حصرها في قانون الحدود والعقوبات والمواريث، بل هي مشروع منهج حياة يحقق العدل والنجاح في كافة المؤسسات والمجالات، وقد تظهر الكراهية في حركات مذهبية طائفية، فتتعاطى الخرافة واللعن والدموية، ومع أنها ترفع شعار الموت لليهود وأميركا وإسرائيل، إلا أن الدم الذي نراه ينزف يمني بامتياز 100%.
وأسوأ من كل ذلك آثاراً وأعم أضراراً حين تتبناها السلطة الحاكمة المستحوذة على السلطة والثروة فتنتهج السياسة الميكافيلية في خداع الشعوب وتجعويعها وتجهيلها وتخوينها والتحريش بينها وسفك دمائها ونهب أموالها وضياع حقوقها وحرياتها وأمنها واستقرارها وسيادتها واستقلالها وإهانة كرامتها، فإذا استيقظت الشعوب فجأة بعد معاناة مرارات سنين طويلة كان جوابها المزيد من العنف والقهر والقمع والقتل وكان الواجب ولو كان ثم حياء وتقدير ولا أقول محبة تقديم السلطة لاستقالتها عند ظهور بوادر إخفاقاته عن أداء برامجها وواجبها، لكن الحقد والكراهية للأفواه الجائعة والبطون الخاوية (المطالبة باستعادة الكرامة المهدرة. وبدلاً من أن نظل نندب حظنا ونبكي على الديار والأطلال ونقف عند المظاهر والآثار فعبثا نحاول إن لم تستشعر المؤسسات العلمية والتعليمية والإعلامية والتربوية واجبها المتمثل أولاً في (تزكية النفوس) من خلال المناهج والبرامج العلمية والعملية من مثل هذا المرض العضال والداء القتال وفيروس الإيذر الفكري والأخلاقي الذي طالما حال دون تحقيق قوة المسلمين واجتماع كلمتهم وفتح الباب واسعاً لهيمنة أعدائهم وانتهاك سيادتهم، ولطالما وقفت هذه الثقافة خلف أزماتنا السياسية والأمنية والاجتماعية.
ولقد كرست الشريعة الإسلامية من خلال المئات من نصوصها وقواعدها ثقافة المحبة والرحمة والسلام، فالإسلام دين السلام (.. ادخلوا في السلم كافة) ولم يكن اعتباطاً ولا شكلياً أن يفرضه الإسلام تحية المسلمين فيما بينهم، بل لتعم ثقافة السلام وتكون منهاج حياة للمسلمين. ابتداءً من مسالمة المسلم نفسه بالإيمان والرضا والقناعة، فلا يتلجلج ولا يضطرب عقله وفؤاده عند المصائب والفتن ومروراً بمساءلته لإخوانه فلا يمسهم منه أذى ولا ضرراً، بل يحرص لشفافيته على عدم جرح مشاعرهم ونفسياتهم (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره ولا يسلمه.. كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه) (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) وبالسلام يقابل أذى أهل الفحش واللغو والجهل (وإذا خاطبهم الجاهلون قال سلاما) والسلام في الأصل التعامل حتى مع أهل الكتاب ماداموا مسالمين غير محاربين (وإن جنحوا للسلم فأجنح لها) (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا..) ولهذا وردت الأحاديث الصحيحة وقام الإجماع على حرمة قتل الكافر غير الحربي ولو راهباً أو امرأة أو صبياً أو معاهداً أو ذمياً أو مستأمناً (وإن أحداً من المشركين أستجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه) [التوبة] وعند مسلم (من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة) وقد لخص الرب تعالى رسالة نبيه بقوله (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)، ذلك أن الغاية هدايتهم، هي تتأتي بحسب إقامة الحجة والإكرام لا الإهانة والانتقام. فشرع معاملتهم (أن تبروهم وتقسطوا لهم) ومحاورتهم وفق قوله (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن) وقد ربط صلى الله عليه وسلم بين الإيمان والمحبة والسلام في قوله (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) متفق عليه وقال (.. ولا تؤمنوا حتى تحابوا.. أفشوا السلام بينكم) رواه مسلم
رئيس رابطة علماء ودعاة عدن.
عمار ناشر العريقي
السلام عليكم 2395