تعقدت العلاقات الاجتماعية حين توسعت رقعة المجتمعات الحديثة وتنوعت وسائل الاغتراب والسفر فيها وانشغل أفرادها بالكسب وتحسين مستوى المعيشة على حساب علاقاتها الإنسانية البسيطة التي كانت فيما مضى هي الأساس لبناء مجتمع ما صغيراً كان أو كبيراً.
علاقات الجوار واحدة من تلك العلاقات التي تأثرت بمستوى الصدع ودرجة الاهتزاز التي أصابت المجتمعات جراء هذا التوسع المريع الذي يزداد يوماً بعد يوم، فالجار لم يعد مطلوباً قبل الدار كما كان في الماضي، بل إن حق الجوار لم يعد محمياً بالمروءة كما كان من قبل وأصبح من الناس من يبيت ليلة خائفاً من شر جاره، أقرب الناس إليه مكاناً وزماناً!.
الجار نصير الجار وأخو المجورة وحامي حمى الدار والحصن الحصين عند الشدائد، أصبح الغريب والمهاجر واليد التي يخاف الآخرون بطشها وعبثها بأمنهم ومساكنهم هو من يتجسس ويؤذي ويكيل الهزائم الأخلاقية على جيرانه، تخافه القطط وترهبه الكلاب إذا وطأت قدماه أرض الحي فما بالك بالضعفاء والفقراء والذين يكرهون المراء والنقاش اللغط؟!.. فلماذا أصبح الجار عدواً؟ لماذا أصبحت علاقات الجوار بهذه البشاعة؟.. جرائم قتل واغتيالات وسرقات ونزاع تحدث خلف الجدران ويدركها الجيران لكنهم لا يحركون ساكناً، لماذا؟! شهادة حق يمكن أن تنقذ إنساناً من الموت ظلماً يبخل أن ينطقها جار، فيموت المظلوم ويبقى الظالم حراً طليقاً.. لماذا؟! أين نحن من وصيته صلى الله عليه وسلم حين قال: "لا زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه" صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وأين نحن من حديث (والله لا يؤمن (ثلاثاً) من بات شبعاناً وجاره جائع)، وأين نحن من حديث إكرام الجار بالمرق، أو حديث حفظ أمن الجار من بوائق النفس الشريرة؟!! أين نحن من كل هذا وسواه كثير ونحن نقض مضجع الجار بمكبرات الصوت في الأعراس وننساه عند العزائم ثم نذكره بعد أن تنفض الولائم؟!! أين نحن من جاره أرملة ويتيم وآخر عثير ورابع كفيف.. كلهم بحاجة إلى كلمة طيبة وخلق كريم أكثر من أي شيء آخر؟! ماذا كان يمنح رسول الله صلى الله أصحابه غير كلمة طيبة وابتسامة حانية ووجه سموح؟! كان يجذبهم لحضرته الشريفة غير قلبٍ نابضٍ بالحب واللين والتواضع؟!.
الجار هو من يعطي للمكان والزمان روحاً حين يبتعد الأخ ويرحل الأب وتنأى الأم وينعم الله علينا بآباء لم يحملونا على ظهورهم وأمهات لم تحملنا بطونهن وإخوة وأخوات لا يجمع بين أسمائنا وأسماءهم نسب واحد.. الجار هو حارس القربى التي تسير في عروق العلاقات البشرية مسرى الدم في العروق ولهذا أصبح السؤال والرعاية والسلام والصدقة والإحسان مما يجب من خلق المسلم اتباعه تجاه الجار ذي القربى أو الجار ذي الجنب وهو الجار البعيد مكاناً أو نسباً..
أذكر دائماً المثل الشعبي المصري القائل (صباح الخير يا جاري أنت في حالك وأنا في حالي) فيكاد ينشطر قلبي نصفين، لأنه وبكل أسف يكاد يكون موضع تطبيق أكثر من الهدي النبوي في حق الجار، فمتى نعي واجباتنا تجاه أنفسنا وتجاه الآخرين كمسلمين؟!.
ألطاف الأهدل
صباح الخير يا جاري! 1946