حين قلت في تناولة سابقة بأن مشكلة اليمن ومفتاح حلها بات اليوم محصوراً في نطاق ضيق لا يتعدى صنعاء وضواحيها ؛ فلم أقصد فقط بكونها مركز قرار وثقل وانتماء يستمد منه الرئيس السابق ونظامه كينونته وقوته ونفوذه القبلي والعسكري كي يرضخ النظام الجديد فحسب، وإنما قصدت أيضاً بكون هذا المركز ديموغرافياً يمثل مشكلة تاريخية وسياسية ومجتمعية مزمنة موغلة في التاريخ والذهن والوعي الجمعي .
كيف ولماذا المشكل في صنعاء وليس في عدن أو تعز أو حضرموت أو تهامة ؟ فلأنها تمثل معقل السلطة ومحورها الأساس المثبط والمعيق لتخلق الدولة وتكونها ، فلأكثر من عشرة قرون واليمن تعاني من هيمنة الثنائية – الإمامة والقبيلة – المدمرة والقاتلة للدولة اليمنية ولنظامها السياسي، بل ولولا تعنت وتخلف هذا المركز لما كان حال الجمهورية والوحدة بهذا السوء والعبث!.
وعندما نقول صنعاء فلا نعني بذلك جغرافية المكان ؛ بل نقصد الإنسان الذي لم يتحرر بعد من ربق العقلية القبلية العصبية التي للأسف مازالت حتى اللحظة الراهنة مهيمنة ومستأثرة بصياغة مجرى تاريخ اليمن الحديث ، فبرغم تفاعل وتلاقح جغرافية المكان مع سياق التاريخ الإنساني العصري ؛ إلا أن الناظر في جوهر المشكلة القائمة الآن سيجدها نتاج عقلية ضائقة ومنغلقة قاتلة لروح الانفتاح والتحضر والتعايش بمفهومه الإنساني الواسع .
كان الاعتقاد السائد بأن تخلف اليمن يعد نتيجة موضوعية لتخلف إمبراطورية الأتراك ، لم نقل أن ما لحق باليمنيين في ظل حكم الأئمة كان أسوأ وأمر من حكم ولاة الأستانة مليون مرة ! لم نشر صراحة بأن مرض هذه البلاد مكمنه في الرأس لا الأطراف والوسط ! بغداد ودمشق والقاهرة وبيروت والقدس كانت مدناً عثمانية، فلماذا نجحت ثوراتها وجمهورياتها في القضاء على كثير من مظاهر التخلف العثماني ولمصلحة الدولة المدنية بينما فشلت ثورة 26سبتمبر 62م وجمهوريتها في جعل صنعاء عاصمة مدنية عصرية ؟.
رحل نظام سلالي ثيوقراطي كهنوتي وحل بدلاً عنه نظام فردي عصبوي قبلي جهوي أوتوقراطي ! لا أدري ما الفارق بين عاصمة مملكة الإمام الحاكم باسم الله الذي تُغلق بأمره أبواب صنعاء وخزائنها وبين عاصمة جمهورية الرئيس الحاكم باسم الشعب وتحرسه ألوية وكتائب لا تأتمر سوى من فخامته ؟.
وإذا كانت المشكلة باعتقادي تكمن في مدى قدرة اليمنيين على عصرنة وتمدين العاصمة التاريخية ؛ فإن السؤال الماثل هو : ماذا بمقدور هذه الثورة الشعبية فعله إزاء عاصمة بلادهم كي تكون عاصمة سياسية لدولة مدنية اتحادية مستقرة ؟.
أولاً : على قبائلها معرفة وإدراك أن مشكلات المجتمع اليمني لم تعد تأت من الأطراف والوسط وإنما من الرأس ، فما لم تتخل هذه القبائل المهيمنة عن مركز القرار كي يشاطرها وسط وأطراف البلاد ؛ فإنها لم تفهم وتستوعب حقيقة ما جرى وهذا سيكلفها كثيراً وباهظاً .
ثانياً : لا يمكن لكائن من كان قبول مسألة الاستئثار بالسلطة والقوة وبذات المنطق القديم الراسب في ذاكرة وفعل القوى القبلية والدينية التي لطالما أفلحت في السيطرة على وسط وأطراف اليمن ، فهذه المرة إذا لم يقدم المركز على خطوات جريئة وعملية تصب بمنفعة الدولة اليمنية الحديثة ؛ فإنه لن يستطيع وقف عجلة التفكك والتجزئة إذا ما مضت جماعات وفرادى من دونه .
ثالثاً : لم يعد بالإمكان احتمال مقاومة المركز لدولة النظام والقانون ، فإذا لم يحسم المركز أمره مع النظام الجديد الذي بدا بالتخلق والتشكل ، بمعنى آخر أن يتخلص من النظام القبلي العصبوي الذي ساد قروناً ومازال يحاول جاهداً إعادة إنتاج نفسه مثلما سبق ونجح في انقضاضه على الثورة والوحدة ؛ فإنه سيقضي على آخر فرصة وفرص البقاء والاستمرار ضمن سياق وطني عصري مجسد لفكرة دولة المواطنة المتساوية .
محمد علي محسن
صنعاء بكونها المشكلة والحل ! 2280