إن المتابع للأحداث في جزء غالٍ من الوطن "جنوب اليمن" منذ خروج المستعمر البريطاني وإعلان الاستقلال في العام 67م ـ يجد أن القادة والسياسيين قد ارتكبوا جملة من الأخطاء القاتلة ولازالوا حتى هذه اللحظة، فمنذ انطلاق الشرارة الأولى لمواجهة المستعمر البريطاني من قمم جبال ردفان الشماء وجبال يافع الشامخة والتي تعانق غيمات السماء وما إن بدأ الثوار بالزحف نحو المحمية البريطانية عدن حتى بدأت الأخطاء الجسيمة تظهر على السطح، فقد تمكنت الجبهة القومية من إزاحة جبهة التحرير وكانت الأخيرة قد أخذت على عاتقها أهدافاً عظيمة بإزاحة المستعمر من على الأرض وعودة الجزء الغالي من الوطن إلى الوطن الأم برؤية معتدلة أهمها المحافظة على هوية الأمة وقيمها الأصيلة والمحافظة على الاقتصاد الحر، فأتت الجبهة القومية والتي كانت تضم فصائل عديدة وقضت على جبهة التحرير دون هوادة واتهمت بالخيانة والعمالة وأزيحت عن الحياة السياسية وأزيح معها مشروع حضاري معتدل كان أقرب إلى الواقع بحسب وجهة نظري.
وما إن تمكنت الجبهة القومية من بسط نفوذها والقضاء على شريكة النضال والتحرر حتى بدأت الخلافات تظهر في صفوف الرفاق وتمكن المشروع المتطرف من إزاحة القوى الأقل تطرفاً، وبسط المتطرفون نفوذهم على ربوع جنوب الوطن وإن كان للتيار الذي قاده الحزب الاشتراكي اليمني من حسنة تذكر له هي توحيد المشيخات والسلطنات التي زرعها المستعمر في جنوب الوطن، إلا أن ذلك الفعل الإيجابي قد اتسم بالحد، والتطرف ولم يراع حق المواطنة ولا حتى الجانب الإنساني، بل إنهم شردوا الجميع ودمروا كل شيء وطردوا رأس المال وأمموا الممتلكات وبقية المباني والمنشآت خالية تسكنها الهوام والأشباح، مما اضطرهم إلى ملء الفراغ بجلب السكان من الأرياف.
ولم تتوقف الأخطاء عند هذا الحد، فالتطرف ليس له حدود ولا دين ولا مروءة، فانقلب الرفاق على رفاق الدرب وبدأت التصفيات الجسدية تحت مبررات واهية مثل التآمر والخيانة والعمالة وما شابه ذلك من الوسائل ونتيجة للجهل والتخلف لم يستطع أي طرف أن يقبل بالآخر وكان القضاء على قحطان الشعبي، وفيصل عبداللطيف الشعبي، ثم سالم ربيع علي وحادث الطائرة.. رحم الله الجميع.
ولم تكن تلك الأفعال بعيدة عما يدور في شمال الوطن، بل ظل الشمال والجنوب مرتبطين بالأحداث بالرغم من قيام كيانين منفصلين ونظامين مختلفين، إلا أن الأحداث بالشمال كانت أقل وطأة ولم تصل إلى درجة التطرف الحاصل في المحافظات الجنوبية وكان شمال الوطن يشكل ملجأ آمناً للفارين من الجنوب وكان جنوب الوطن ملجأً آمناً للفارين من الشمال وهكذا دواليك.
ومن أخطاء الساسة والقادة في جنوب الوطن هو تمردهم على القيم والأخلاق ومحاولاتهم طمس الهوية والارتباط الكامل بالمنظومة الاشتراكية وكذا تأثير بعض الموبوئين من العرب الذين فشلوا في تطبيق نظرياتهم في أوطانهم ووجدوا في جنوب الوطن أرضاً خصبة للتطبيق وكان نتاج ذلك انتزاع الثقة المتبادلة بين الفرقاء من الرفاق في الحزب الاشتراكي اليمني وكانت النتيجة مجزرة عام 86م الرهيبة التي قضى فيها أكثر من ثلاثة عشر ألف شخص من خيرة كوادر مؤسسات الدولة في جنوب اليمن، إضافة إلى من توجه إلى محافظة عدن من أنصار الطرفين وخلال 6 أيام حصدت الأنفس كما تحصد الجراد وارتكبت أبشع أنواع جرائم القتل وخرج الفرقاء عن إنسانيتهم وقتل الناس بالهوية وانتهكت الأعراض وسلبت الأموال وقتل الآباء أمام أبنائهم.
وبعد مجزرة 13 يناير بدأت بعض الأصوات تتعالى على استحياء وتستنكر الإقصاء وكان للشهيد جار الله عمر ـ رحمه الله ـ السبق في رسالته التي قدمها للمكتب السياسي للحزب الاشتراكي عام 87 م والتي دعا فيها إلى الحوار بين فرقاء الحزب واستيعاب القوى الوطنية الليبرالية في الشمال والجنوب وحذر الحزب من التقوقع على نفسه، كما حذر من تصاعد التيار الإسلامي ودعا إلى إعطاء التيار الإسلامي متنفساً محدوداً ليسهل التعامل معه وبحدود الممكن.
وبدأ العقلاء من أبناء اليمن بالتفكير بجدية، بأنه لا يمكن بقاء الوطن مجزءاً وأن التمزق القائم بين شطري الوطن لن يساعد على الاستقرار لا في شمال الوطن ولا جنوبه، وكان لأبناء الجنوب السبق في التوجه نحو الوحدة الوطنية، فيما كان لعدد من القوى في شمال الوطن رأي آخر وهو التدرج في عملية الوحدة مرحلياً حتى الوصول إلى الوحدة الاندماجية وحمل هذا الرأي كل من حركة الإخوان المسلمين والقيادات القبلية في شمال الوطن وأنا أعتقد شخصياً أن هذا الرأي كان هو الأصوب.
وبعد أن تحققت الوحدة اليمنية المباركة في عام 90م كان لكل طرف من الموقعين على اتفاقية الوحدة أجندته الخاصة، فكان الحزب الاشتراكي يظن أنه بقدرته التنظيمية وقدرته العسكرية يستطيع أن يحتوي النظام في الشمال وأهمل تماماً قوة التيار الإسلامي والقبيلة، بل إنه ناصبهما العداء، الأمر الذي استفاد منه النظام في شمال الوطن والذي تمكن من الاعتماد على تلك القوتين والاتكاء عليهما لإزاحة الإشتراكي من خلال التحالف الانتخابي في عام 93م واستغل عدم مرونة الحزب في التعامل مع القوى الأخرى واعتماد الحزب على معلومات مضللة قدمها رموز اشتراكيي شمال الشمال.
ونتيجة لتخوف القوى الإسلامية والقبلية في شمال الوطن وجنوبه من مواقف الحزب الاشتراكي الاقصائية اندمجوا بتحالف قوي مع نظام صنعاء، مما أدى إلى وهن الحزب الإشتراكي وبدأ النظام في صنعاء بالضغط على الحزب وقياداته وكوادره تدريجياً حتى وجدوا أنفسهم محاصرين في مكاتبهم ومقار أعمالهم، وبدلاً من أن يغيروا استراتيجيتهم نحو القوى الأخرى وفكفكة التحالف القائم ضدهم زادوا من خطابهم العدائي وخسروا الدعم الشعبي تدريجياً وانكفأوا على أنفسهم وبدأوا التفكير بالعودة من حيث أتوا وظنوا أن الوحدة نزهة يذهبون متى شاءوا ويعودون حين يملوا من البقاء وارتكبوا بهذا خطأً قاتلاً بإعلانهم الانفصال مرة أخرى، الأمر الذي مكن نظام علي عبدالله صالح تحت اسم الحفاظ على الوحدة اليمنية من كسب التأييد الشعبي الجارف في شمال الوطن وجنوبه وبدأ يدق طبول الحرب لاستعادة الوحدة وكانت حرب عام 94م وقد حارب النظام في الشمال الحزب الاشتراكي ومعه جيش كامل من أبناء المحافظات الجنوبية يقاتل إلى جانبه، إضافة إلى تأييد شعبي جارف.
وبعد أن تمكن الرئيس علي عبدالله صالح ونظامه من إزاحة الحزب الإشتراكي عن سدة الحكم، لم يستفد صالح من دروس وقعت لمن سبقوه وهذه سنة الله فيمن لا يحملون هم الوطن وبناء الأمة، سنة الله تجري فيمن همه البقاء على كرسي الحكم بأي ثمن.. وبدأ الرئيس صالح يتخلص من حلفائه واحداً تلو الآخر وبدأ يتفرد بالحكم واستهان بمعاونيه كما استهان بالحزب الاشتراكي اليمني شريكه في صناعة الوحدة اليمنية، واتجه مسرعاً نحو التوريث وبناء المملكة الصالحية.. وهنا بدأ الاستياء يعم ربوع الوطن شمالاً وجنوباً وبدأ أبناء الجنوب يكفرون بالوحدة الوطنية وقد كان لأبناء الجنوب السبق في مقاومة الظلم والطغيان كما كان لهم السبق في تحقيق الوحدة الوطنية، حتى تفجرت ثورة الشباب في بداية العام 2011م نتيجة الأزمة السياسية الطاحنة التي كانت تمر بها اليمن وتأثراً بالربيع العربي.. وللأسف الشديد إن جزءاً من القادة والساسة في جنوب الوطن لم يستوعبوا الدرس بعد ولم يستفيدوا من أخطائهم السابقة على مدى نصف قرن، فاتجهوا نحو تعبئة الشارع في جنوب الوطن نحو العداء لإخوانهم في الشمال وركزوا على جيل الشباب الذين لم يعانوا مرارة الانفصال ولا أهوال الرفاق وحملوا أبناء الوطن المنحدرين من الشمال مآسي النظام في الجنوب من إقصاء واستبداد ونهب وغيرها، وها هم يدغدغون عواطف الشباب من رغد العيش وسعادة الدنيا وكأنه ما إن يتم الانفصال حتى تصبح عدن دبي أخرى، أو هونج كنج وهم يعلمون تماماً أن الانفصال يعني الدمار والخراب والاقتتال، ونسوا أن عدن كانت بأيديهم وماذا عملوا بها، وماذا قدموا لأبناء عدن وأبناء الجنوب غير الخراب والدمار، كان المواطن إذا وصل إلى جولة كالتكس كأنه وصل إلى أقصى الأرض وهاهم إخوانهم في المحافظات الشمالية قد أسقطوا النظام المستبد الذي كان سبب البلاء في الوطن وها هم إخوانهم في شمال الوطن يسلمون لإخوانهم الجنوبيين كل مقاليد الأمور من رئاسة الدولة والحكومة وقيادة الجيش وها هم إخوانهم من أبناء المحافظات الشمالية يقدمون لكم الدولة والوطن بكامله على طبق من ذهب لتعيدوا الاعتبار لكل أبناء الوطن.. ألا تحكمون عقولكم وضمائركم وتحافظون على دماء اليمنيين وحقهم في الحياة وتنتصرون على أنفسكم ونزواتكم؟.. نرجو ذلك؟.
والله من وراء القصد
نور الدين اليامي
القضية الجنوبية.. بين الجحود والتطرف!! 2506