قبل أن أبدأ بالحديث عن سورة آل عمران أحب أن أذكر القارئ الكريم بأن هذه الإشارات القرآنية التي بدأناها في مقالين سابقين بسورة البقرة وسنحاول إتمامها بإذن الله حتى نختم سور القرآن الكريم كاملة، لم أقصد منها الشرح أو التفسير أو آلية التطبيق أو سرد الأحكام وتأويل نصوصها ولكني قصدت من هذه الإشارات أن أحملكم معنى في رحلة غوص شفافة وصادقة ونقية في هذا البحر العجيب من كلام الخالق البارئ المصور وحتى أمنح اللذين لا تمس أيديهم كتاب الله فرصة لمعرفة ما يحوي هذا الكتاب من روحانية وطمأنينة وروعة بناء وتمكين وتأسيس لإنسان سوي يستطيع بعد ذلك أن يبني مجتمعاً سوياً متميزاً بكل مقاييس الجودة الحضارية التي تختلف عن حضارة مادية نعيشها رغماً عنّا.
لا أدري لماذا أسمي هذه السورة الرائعة سورة السكنية وأشعر حين أقرأها بالهدوء يغشى قلبي وعقلي وأشعر بشوقٍ أكبر لأن ألقى رب كل هذا الكون الذي أحسن كل شيء خلقه ثم هدى.
تبدأ سورة آل عمران بذات البداية الاعجازية من حروف نعرفها شكلاً ونعجز عن معرفتها مضموناً بهكذا انسياق لا يعمله إلا الله (آلم)، تتلوها آيات قدرة إنزال وخلق وعلم بكل ما في الأرض والسماء وابتهالات ممن يعرفون الله بقلوبهم وعقولهم ويرجونه ولا يرجون أحداً سواه، ثم تسير الآيات تباعاً حتى نصل إلى أية جميلة (زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب) آية (14).. أنظر لحلم الله الذي دعانا لجنة عرضها السماوات والأرض ثم وضع في طريقنا كل هذه الاختبارات الدنيوية التي لا يساوي مضمونها شيئاً أمام ما عند الله من كنوز السماوات والأرض، أنظر لهذا العلم المسبق واللاحق بفطرة البشر التي تتعلق بزينة الدنيا من مال وزوجة وولد وهيلمان دنيوي زائل، قلت ذلك آية إثبات لما عند الله، ذلك النعيم الرائع الذي لا يزول.
وتأتي مواصفات إيمانية راقية لأولئك الذين يسكنون تلك الجنات إلى الأبد، تأملوا هذه الآية (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط لا إله هو العزيز الحكيم) منتهى الكرم والسمو والعلو الرباني، أليس من حقي إذاً أن أسميها سورة السكينة؟!.
"إن الدين عند الله الإسلام" تشريع صريح وواضح وقوي لا يحمل التسويق، آية من نور يجب أن يعلقها المسلمون في أذهانهم بعد أن وصل بهم الحال إلى تطبيع العلاقات مع أعداء الله وفتح حدودهم الأخلاقية والاجتماعية لدخول ثقافات غربية هابطة لا تقصد إلا تفكيك عُرى الأخلاق وتمييع حدودها وذوبان معالمها في بوتقة الآخر.
نصل سريعاً إلى أية (26) (27) (قل اللهم مالك الملك..) ابتهال يصور وقوف الضعفاء على صعيد القوي الذي وسع كرسيه السماوات والأرض، آيتان اختصرتا قدرة الواحد الأحد في الرفع والخفض، العطاء والمنع، العز والإذلال الموت والإحياء.. وهكذا تندرج آيات القدرة والتبشير والترغيب بالدخول في رحمة الله التي لا تغلق أبوابها إلا أن يشاء.. الله والآن يبدأ سرد القصة المعجزة لمريم البتول تلك الطاهرة التي تولاها الله برعايته وفضله وكرمه بأن جعلها أماً لنبي جاء بكلمةٍ من عند الله وقدرة منه عز وجل بمعجزات شتى أرادها الله أن تكون فكانت ثم يكتمل السياق الخاص بقصة عسى عليه السلام ليشمل موقف الحواريين منه وحادثة رفعه إلى السماء، تتلوها ومضات قرآنية حانية وداعبة إلى سبيل الرشاد، يغلفها عتاب رقيق من ملك الملوك لهذا المخلوق الذي ما أدرك بعد حقيقة وجوده على هذه الأرض والخطاب موجه لأهل الكتاب وموقفهم من نبوة إبراهيم ويشمل الخطاب أيضاً بعضاً من صفاتهم وصولاً إلى ما يجب أن يكون عليه إيمان المرء من شمولية بكل ما جاء به الأنبياء والرسل حتى يصل إلى حقيقة (ومن يتبع غير الإسلام دنياً فلن يُقبل وهو في الآخرة من الخاسرين) آية (85).
ألطاف الأهدل
إشارات قرآنية:آل عمران سورة السكينة والطمأنينة والعتاب 4011