كنت ولازلت أرى أن الفساد شيء واحد ولون واحد ومعضلة واحدة، تعوق تطور المجتمعات وتمنع تقدمها وتظهر إنسان الحاضر بصورة استغلالية مقززة، تجتر كل أنواع السلوك السيء وتبصقه في وجه نفسها بلا أدنى أسف!.
ما رأيناه من موجة التغيير التي عمت الأوطان العربية أوضح حقيقة العمر القصير للفساد الذي غنى ورقص على أشلاء الضعفاء ومصائرهم وحقهم في الحصول على حياة كريمة حتى تهاوى منطرحاً على مقصلة الشعوب كالأضحية، لكن هذا لا يعني أن الفساد قد انتهى ولم يعد له وجود في مجتمعاتنا العربية الحديثة، لأن الفساد باقٍ ما بقيت أركان البشرية قائمة.
ولهذا فمن الجيد القول بأهمية التخطيط للحد من انتشار الفساد أو إعادة توزيعه في مخابئه المعتادة والتي تبدو مسؤولية الحكومة عنها أكبر من مسؤولية الفرد، بما أننا أصبحنا نفتقد جزئياً لوجود الوازع الديني أو الضمير الحي الذي يمكن وبكل تأكيد أن يقف حائلاً قوياً بين الإنسان ونفسه الأمارة بالسوء.
الدرس الذي تلقاه الفاسدون أمام أعين العالم وعلى مسامعهم كان درساً قوياً وقاسياً بما يكفي لتعليم الناس رداءة السياسة وفسادها وأهمية الفضيلة وبقاءها حكماً عدلاً على رقي الشعوب وتطورها.
البعض يرى أن للفساد ألواناً وأشكالاً شتى، لكنني أؤمن بأن للفساد لوناً وشكلاً ومعنى واحداً ويكفي أن النتيجة النهائية لتفاعل الإنسان معه تبدو واحدة في نهاية المطاف.
الفساد السياسي أعلى درجات الفساد وأسوأها على الإطلاق، لأنه يحمي الفاسدين المحيطين بهيكل الحكومية ويغلفهم بالصلاح ويعرضهم كأجود بضاعة يمكن أن تنتجها كواليس السياسة بكل ما تحمله جرعاتها التعليمية من نجس وخبث وسوء، الفساد السياسي هو المسؤول عن ظهور الفساد الإداري والوظيفي وبما أن لكل منشأة حكومية أو خاصة هرماً إدارياً صورياً محدداً، فإن فيروس الفساد ينتقل بسرعة كبيرة جداً من خلاله إلى كافة مرافق المنشأة، فقد أصبح من السهل إيجاد الوسط القابل لظهور هذا المرض العضال بعد أن أصبحت خطط التنمية والتوجيه والتقسيمات الإدارية نسخة طبق الأصل من سابقتها المتهمة بالفساد.. اللهم إلا بعض الاختلافات البسيطة في نظام وهيئة الترويسة.
هذا المنقلب السيء والمخزي الذي آل إليه الفاسدون في بلدان تعمدت نشر فلسفة الطبقية والارستقراطية العرقية وحكم المناصب التي تمجد مآثر السلطان الذي حكم بلا عمامة وبطش بلا سيف وعنّف الناس بلا سوط.
وطالما ونحن نعيش على طريقة "حكم القوي على الضعيف" سيظل الأمر على ما هو عليه حتى يأتي قوم متوكلون على الله حق التوكل، ويعلمون أن فئة قليلة تغلب فئة كثيرة بإذن الله وأن الله مع الصابرين، أما هذا الإحساس بالضعف والتخاذل وتكرار صورة أرباب الفساد في كل حرفة ومهنة ووظيفة، فهو الفساد بعينه.. ونسأل الله أن يكون هذا الجيل قادراً على اشتمام رائحة الفساد ومحاربة بقاءه بشتى الطرق والوسائل، وإلا لا فائدة تذكر من الصراخ في الصحراء، بل لابد من تعميم اليقظة الخالية من سنة المحاباة حتى يعلم الفاسدون أن لا مهرب من تطبيق القانون على الجميع.
ألطاف الأهدل
حتى يعلم الفاسدون.. 1902