أحاول أن أبدو في منزلي كما لو كنت أحد معتنقي فلسفة سقراط الداعية إلى ترك النقاش يسري في معظم أوجه الحياة وعندما تلوح هزيمتي أستخدم مهارة الهروب إلى موضوع أجيد التحكم فيه، لكن ما حدث أمس كان مختلفاً فقد جرفتني طفلتى "هلا" ذات السنوات الثلاث إلى عالمها، فبينما كانت تردد مع التلفزيون أغنية وطنية " سوى نبنيها " وصلت إلى "اليمن قمورة.. قلبها عصفورة توقفت عن الاشتراك بالغناء وقالت : يا باباه يالله نروح اليمن.
هذه المرة أنا من توقف عن إدارة الحوار وتوجيه أشرعته استناداً إلى ربوبيتي للأسرة، عندما تطلب مني هلا أخذها نحو الحديقة أو أي مكان آخر تراه عبر الشاشة أتمكن من إقناعها بتنفيذ ما تريد في الوقت المناسب ومؤخراً أكثرت من التحجج بعدم الاستقرار ولم تعِ بعد ماذا تعني الكلمة، إلا أنها تعرف علاقتها بالبقاء في المنزل وعدم الذهاب إلى أي مكان مهما كان قريباً.
هلا التي تدقق في تعابير وجهي كلما تحدثت بعثت بي في رحلة البحث عن إجابة, ليس سهلاً جعلها تصدق أننا داخل اليمن وتحديداً في أهم بقعة فيها العاصمة إذا كنت أصلاً أريد من يقنعني بهذا , لقد ارتبط اسم العصفورة بالريش ذات الألوان الزاهية والصوت العذب والقدرة على التحليق عاليا , تجمع صغيرتي صور العصافير في ألبومها وتفضلها على بقية المخلوقات ولديها استعداد أن تتنازل عن شراء الألعاب التي تحبها مقابل شراء طعام لعصفور داخل قفص , عند سماعها أن قلب اليمن عصفورة طارت نحوها كل هذه الأحاسيس فأرادت رؤيتها وهو ما خلق الحيرة عندي بماذا أجيب، فقولي أن هذا مجرد تعبير مجازي الغرض منه الإشارة إلى قلب يحلق عالياً فسأكون أقحمتها إلى ما كرهته في طفولتي من قواعد ابن عقيل وأبو الأسود والوقت ليس مناسباً لطفلة من حقها العيش بعيداً عن التراث العربي المكبل بالقواعد النحوية والفكرية والحربية . ستحاصرني إن أوهمتها أن اليمن حقاً عصفورة برجاء أن نزورها غداً.. بالفعل اليمن عصفورة ظلت حبيسة طوال عمرها وحين حانت لحظة تحليقها لم تعد تدري أي وجهه تختار وتشتت تفكيرها وأجزائها كل جناح يهوى أن يذهب بعيداً عن الجسد الصغير, طبعاً لم أجعلها تسمع هذا.
جمال الأغنية التي أدتها مجموعة ذكورية من الفنانين ارتكز في بساطة كلماتها التي تستخدم للمرة الأولى بعد أن اعتدنا تحميل هذه البلاد أكبر مما تطيق ونأينا بأنفسنا عن ما يغنى لها "دمتي للتاريخ "، أما نحن فلنا البلدان البعيدة نتشرد فيها طلبا للرزق , " دماؤنا فداكي يا يمن " يعني حراف ما معانا إلا بنك الدم نسقي اليمن , " لمن كل هذي القناديل تضوي لمن لأجل اليمن " أما اليمنيون فلهم الشمع سريع الذوبان والفواتير مقابل ضوء القمر , " أنا يمني واسأل التاريخ " أما الحاضر والمستقبل فإنهما حاجة ثانية حراكي مثلاً حوثي سلاطيني .
لست ضد أن نغني أننا مهد الحضارة وأن العالم كله من عندنا , لكن الحضارات جميعها تقريباً جعلتنا ساحات لحروبها، جاء لنا ملوك من آخر الدنيا وصفوا حساباتهم في محلنا، البريطانيون على البرتغاليين على الأتراك عملوا طحنة من الشعب الطيب ولم يمر وقت طويل حتى يأتي اليوم الذي يتغازل فيه الفرس والروم للتصفيات على رقعة اسمها اليمن، رغم أن الخارطة لم تضعنا عند المنتصف لنقبل أن نكون ملعباً لإقامة أولمبيات الموت الحصري .
يطل علينا بيان السيد الحوثي مدافعاً عن إيران من تصريح للسفير الأميركي حذر فيه من تدخل إيراني لزعزعة استقرارنا.. قال بيان الحوثي إن السفير نسى نفسه ومن يمثل وكأنه يريد القول أنهم الطرف الأخر في المعركة وأنه يتدخل أيضاً، شكلنا أصبحنا بحاجة لمن يمثل اليمن ويحكم بين أمريكا وإيران في صنعاء، إيران أصبحت في غنى عن تكاليف فتح سفارة، معانا يمنيين جاهزين للدفاع أفضل ويمكن يقاتلون إن دعت الحاجة ووجه صاحب" قم" وحارب .
يحتاج اليمني أن يمثل بلاده داخلها وأن يلعب ضمن منتخبها لا أن يحترف في فرق حضارات أخرى تتبادل الرسائل عبرنا وكأننا حمام حرب ننقل القذائف والصواريخ لبعضنا مع تحايا المرسل الكريم , نحتاج إلى يقظة دائمة لمراقبة القريب والبعيد لا أن نترك أفراداً لا نضوج لهم ولا ولاء يتصدرون صفوفنا تحت مسميات كاذبة، لنا الحق في أن نصرخ في وجوههم: لم نعد قادرين على خوض حروبكم دعونا نتفرغ لرسم وجه جديد لليمن.. وشخصياً ساعدوني كي أجد الجواب المقنع لابنتي التي مر أسبوع منذ سألتني وتريد منى جواباً لا يحمل الشك متى نزور اليمن؟.
دعوني آخذها إلى يمن الـ21 من فبراير وأغني معها بصوت متوسط حتى لا أزعج شعباً يكفيه دوي القذائف والرصاص ومولدات الكهرباء وتصريحات المتعصبين وأخبار قناة السعيدة الخالية من خبر سعيد وبيانات اليمنيين الممثلين عن الدول الأجنبية .
أريد أن افتح باباً إلى المكان الذي أسير فيه حراً آمناً وأقول لصغيرتي هذه هي اليمن وقلبها عصفورة لأنها لا تقتل أبنائها وتحفظ كرامتهم وتغني لهم كلما أرهقتهم الأيام .