منذ بدء المظاهرات والاعتصامات في بلادنا والسوق الاستهلاكية اليمنية (سلعية أو خدمية) تشهد أبشع أساليب وطرق السلب والنهب للمواطن اليمني ـ ومع أنها ليست الممارسات أو الفرصة الأولى في ظل نظام صالح، لكنها الأشد والأكثر ضرراً بالوطن واقتصاده ـ وكل ذلك تحت مبرر أحل الله البيع وحرم الربا، والضربة الأخيرة.
فليس غريباً على المواطن اليمني ـ الذي عانى طوال سنوات الماضي من جرع سعريه متتالية حكومية ومزاجية ـ عشوائية السوق الاقتصادي اليمني وتزاوجه بالسياسة، وليس مخالفاً لطبع هذا الشعب أن يتحمل 5:10% زيادة سعرية للسلع والخدمات في ظل الظروف الثورية كوضع مؤقت علها تكون نهاية حملته التي قرر ـ منذ بداية العام الحالي ـ الخلاص من الحملات والمحمل..لكن الغريب والمنافي لكل القيم الإنسانية والدينية والقبلية، وللسوق الاقتصادية العالمية..ما عاناه ويعانيه المواطن اليمني طوال 9أشهر وحتى اليوم من ارتفاع لأسعار السلع والخدمات فاق الـ300% بل بلغ 500% مع بعض السلع والخدمات ’وكل ذلك بحجة ارتفاع المشتقات النفطية...
ولا ينكر أحد أن المشتقات شهدت ارتفاعاً مفتعلاً من بقايا نظام صالح، لكن ذلك الارتفاع بلغ حده الأعلى 120%...ولكن السلعة والخدمة التي تأتي جميعها لم تشهد ارتفاعاً مبرراً لممارسات التجار اليمنيين أو مقدمي الخدمات المختلفة..فالنقل ليس سوى جزء بسيط من مكونات سعر السلعة وليس كل السلعة أو الخدمة ولكن حجة التجار في رفع أسعار السلع بتلك النسب التي بلغت نسب الارتفاع في أغلبها أضعاف تكاليفها حتى وصولها إلى ميناء الحديدة أو عدن ـ ذلك الارتفاع مقابل نقل السلع من الميناء إلى السوق فقط..لكنهم يؤدون نفس دور نظرائهم المتحكمين بالمشتقات النفطية ـ فكيف إن كان هؤلاء هم من يصنع السلع ويسوقها،وما تحتاجه المصانع من مواد خام ومشتقات نفطية ورواتب موظفين وإيجارات مباني وخدمات ونفقات؟
فالأسعار التي تشهدها السوق الاستهلاكية اليمنية تؤكد جشع التجار ومقدمي الخدمات الذي بلغ حد سلب حقوق المواطنين.. فليس من الدين والإسلام أن يبلغ الربح أضعاف قيمة السلعة أو تكاليف الخدمة؛ لأن تلك الأرباح والممارسات تجاوزت الربا وفاقته جرماً وظلماً وضرراً..فالربا أهون من دين وإرباح تجار اليمن، فللبيع شروطه، وضوابطه ولم تكن شرعية البيع وتحليله إطلاق لعنان وممارسات التاجر..وإنما من باب تشجيع الكسب الحلال..غير أن سلعة أو خدمة تفوق أرباحها تكاليف إنتاجها أو تقديمها وتسويقها، فذلك كسب حرام وسلب لأموال الناس بالباطل وتحكم في معيشتهم وقلة خوف من الله،واستغلال مقيتاً للأوضاع والظروف وللانفلات الذي تعيشه اليمن، لا يقل جرماً عن الاحتكار الذي يمارسونه، ناهيك عن الغش وغيره من السلوكيات والممارسات التي أضحت سمات ملازمة للقائمين على السوق الاستهلاكية اليمنية سلعية أو خدمية،ويعرفها كل مواطن يمني.
ومما سبق فإن أي متابع للسوق الاستهلاكية اليمنية وأسعارها بعد أن يلتمس لها كل المبررات ويستوعب كل المؤثرات الاقتصادية، ـ وسواء كان يمنياً أو غير يمني ـ يصل إلى نتيجة مفادها تجرد هؤلاء التجار جملة أو تجزئة ومقدمي الخدمات أياً كانت من كل القيم الدينية والإنسانية والأخلاقية والوطنية..بل إن الأمر يتعدى ذلك ليعطي مؤشر خطيراً ينطق بظاهرة اجتماعية سلبية تهدد الوحدة الاجتماعية والانتماء وهي في ذات الوقت ذات صلة بالتزاوج بين السياسة والاقتصاد ـ لاسيما أن واقع اليمن خلال العقدين الأخيرين ومؤسساته التشريعية والتنفيذية والقضائية والسياسية تؤكد أنها استوعبت كل رجال الأعمال في هذا البلد ـ وهو الواقع الذي يعطينا نتيجة تفسيرية ومعلومات حقيقية لأسباب الارتفاعات السعرية ـ طوال سنوات الماضي ـ والتي فاقت الجنونية منذ بداية هذا العام ؛فكون ذلك الواقع معطيات حقيقية وواقعية فإن النتيجة المنطقية :أن جميل فساد نظام حكم علي عبد الله صالح بإشراك هؤلاء التجار في صياغة القرار وسن التشريعات والمناصب العامة، والتي مكنتهم من الاستبداد بالمواطن والتحكم في معيشته وسلب ماله كما يشاؤون.. يجب أن يرد بالاشتراك في المصير الذي يؤمنون أنه كما يمارسه صالح "إذا قدك رائح كثرت الفضائح"..
فمهمة الحرس سفك الدماء وقتل الأبرياء وتدمير الأحياء..فيما مهمة التجار سلب أموال الناس بالباطل لإفقار من بقي مستور الحال منهم... وتلك الشراكة الفضائحية بغية أحد أمرين لا ثالث لهما: إبقاء ملكية المال والتفوق المادي لدى صالح وزبانية فسادة ليتحكموا بأقوات الناس ومعيشتهم ويذلونهم فيتبعونهم من أجل البقاء أحياء.. عندها يستغلهم صالح وقوداً في مواجهة الثورة التي تعصف بنظام حكمه وسلبته حق البقاء رئيساً، وحالت دون تمليك الجمهورية،وتلك مستبعدة التحقق في شعب غسل قطران الإمامة بدماء الحرية والكرامة، وفضل الموت جوعا على حياة النعيم المصبوغة برائحة الذل..
أما الأمر الأخر والغاية الأخيرة والراجحة فهي التساوي في المصير الفضائحي تحت قاعدة أكلة وموته (أكلة الوداع)..وإكمال آخر فصول الفساد والاستبداد.. أو أن عارض أخر خارج سيطرة الرئيس صالح هو من يتحكم بالسوق الاقتصادي ويلعب ذلك الدور لإثبات غياب الدولة وعجز نظام الحكم عن توفير حياة مستقرة للمواطن اليمني..وبذلك سيفقد الشعب الثقة بهذا النظام كما هو حاصل اليوم وستكون تلك الممارسات أحد أبرز أسباب وعوامل زوال نظام حكم صالح وطي صفحته إلى الأبد ؛لأنه نظام سمح بهذا الفساد لتجار كانوا في الحزب الحاكم أو المعارضة وإشراكهم في السلطة ثم لم يتمكن من السيطرة عليهم بما يخدم المواطن..
ورغم كل ذلك وتأكيداً على فشل الغاية الأولى فإن الشعب اليمني في ساحات الثورة أو منازل وقرى العزة لم يأبه لتلك الممارسات اليائسة ـ وإن مسه ضررها ـ فلم يحرف مساره الثوري وقراره بزوال النظام إلى الاستسلام لممارسات بقاياه وتحكمها في قوته ومعيشته مفضلاً لتلك البقية الغاية والخيار الثاني المتناسب مع طبيعتهم والمناسب لنهاية مسرحية هزلية ومسلسل فساد تاريخي.
وتبقى العبرة المستقاة من نظام صالح في هذا الجانب الاقتصادي ـ الذي يمثل دعامة التنمية لأي شعب من الشعوب ومعيار عدالة من عدمها.وتشخيص لشكل الدولة ونوعية الحكم فيها ـ وهو ما يجب أن يتنبه له الثوار عند صيرورة الأمر إليهم أو من سيحكم اليمن، وعند صياغة الدستور وإعادة سن القوانين، ومنع التزاوج بين السياسة والتجارة بتاتاً، فذلك من مهلكات الشعوب وحواجز التنمية وتكريس الدكتاتورية، بل والعودة إلى الإقطاعية، وما نختتم به هذا المقال سؤال لأولئك التجار والمستغلين هل تنوون شد رحالكم من هذا الشعب بممارساتكم هذه، وهل تظنون أن اليمنيين سيقبلون ببقائكم محتكرين ومتحكمين بعيشهم بعد كل ممارساتكم وسلبكم لأموالهم بالباطل؟ فأنتم شركاء الفساد وجزء من مشرعيه وأحد أدواته التنفيذية؟ غير أن العودة عن الجرم والخطأ والتكفير عنه تبقى مفتاح قبول عند الله ومجال تسامح عند الناس.
ماجد البكالي
آخر فصول التزاوج بين السلطة والتجارة 1993