فترة حكم تجاوزت الـ"33" عاماً في يمن الإيمان والحكمة تستحق الكتابة بها ولكن ليس بأسلوب وإطناب وسجع الآنسي والشاطر واللوزي بل من نافذة محايدة ومترفعة عن الصغائر والمجاملات حتى ترى إلى أحداث هذه الحقبة الزمنية بوضوح.
أدق الضابط الذي قيل إنه كان يحلم بالرئاسة منذ التحاقه بالجيش كان على مقربة من الأحداث التي أزاحت بأربعة رؤساء في فترة زمنية قصيرة جداً ويدرك جيداً من هي الأسباب والدوافع وأطراف اللعبة، وخاصة ما تعرض له الراحل/ إبراهيم الحمدي ـ رحمه الله ـ، حيث أدرك صالح أن اتحاد المشائخ مع الجيش أو بالأصح القبيلة والعسكر كفيل بإطاحة أي رئيس في اليمن حتى ولو كان رجل التنمية والدولة المدنية الحديث والمقدم/ إبراهيم الحمدي، فالرئيس القادم من معسكر خالد وقيادة لواء تعز أول من قصده قبل تعيينه رئيساً هي القبيلة كما يقول الشيخ/ عبدالله بن حسين الأحمر في مذكراته بأنه يريد الثأر لسلفه الرئيس الغشمي حتى لأسبوع واحد، كما عمل صالح على كسب تعاطف القيادات المؤثرة في الجيش من خلال إغداق الأموال عليها ومن ثم إبعادها عن مواقعها السابقة وتعيين قيادات بدماء جديدة لمختلف الوحدات العسكرية والأمنية خلال ثمانيات القرن الماضي، وبذلك استطاع الرئيس/ علي عبدالله صالح الأحمر الحصول على مباركة يرضى القبيلة والعسكر في آن واحد، وعندما توسعت الجبهة الوطنية في عملياتها داخل المناطق الوسطى، وعجز جيش الجمهورية العربية اليمنية عن إخمادها وتأمين حدوده مع الشطر الجنوبي حاول صالح كسب ود تعاون أبناء المناطق الوسطى للوقوف معه صفاً واحداً في مواجهة الماركسية من خلال التحالف مع حركة الأخوان المسلمين بقيادة عبدالرحمن العماد إلى جانب مصاهرة آل الحجري، لما كان يتمتع به القاضي الشهيد/ عبدالله الحجري من احترام وسمعة طيبة داخل المنطقة وظلت الأوضاع في تلك المناطق بين كر وفر حتى انهيار المنظومة الاشتراكية والمعسكر الشرقي برمته ليسارع صالح بالتواصل مع قيادات المحافظات الجنوبية ولتباحث حول إعادة تحقيق الوحدة اليمنية، ليتم الإعلان عنها يوم الـ22 من مايو 1990م.
وقد شهدت المنطقة عقب إعلان الوحدة اليمنية أحداثاً تاريخية تمثلت في حرب الخليج الثانية بعد دخول القوات العراقية لاحتلال الكويت، وحينها خسر صالح أبرز الداعمين له في المنطقة السعودية والكويت بسبب موقف الحكومة والشعب اليمني الداعم للعراق "الرافض للتدخل الأجنبي ولم يتنفس الرئيس اليمني الصعداء حتى يساوره القلق حول مستقبله في الحكم في ظل وجود نائب اشتراكي وانقسام للجيش وفي ظل تعددية حزبية كانت إحدى شروط الوحدة.
اشتد الخلاف بين الرئيس ونائبه حول كثير من أمور البلاد ووصل الخلاف إلى ذروته عقب انتخابات 1993م النيابية، وحصول شريك الوحدة والحكم على المرتبة الثالثة في نتائج الانتخابات ليضطر الطرفات إلى الخيار العسكري والذي انتهى بانتصار صالح ومن معه من خلفاء آخرين كالإصلاح والقبيلة وغيرها وهزيمة الحزب الاشتراكي ويدخل الرئيس الذي أصيب بضرورة النصر في شراكة جديدة مع شركاء الحرب في حكومة ائتلافية دامت من نهاية 94م وحتى نهاية إبريل 97م، عقب الانتخابات النيابية الثانية والتي حصل فيها حزب الرئيس المؤتمر الشعبي العام على الأغلبية المريحة في مجلس النواب ليعلن الانفراد في حكم البلاد، وقد تزامنت هذه الانتخابات مع أول ظهور لنجل الرئيس العقيد/ أحمد علي عبدالله صالح الذي فاز في الدائرة "11" في أمانة العاصمة كمرشح للمؤتمر الشعبي لعام، في الوقت الذي كانت الشعوب العربية تتحدث عن أبناء الزعماء العرب مثل عدي وقصي نجلي الشهيد/ صدام حسين وبشار الأسد والملك عبدالله ملك الأردن.
ومنذ نهاية حرب 94م وحتى 2006م ظل صالح يعمل على تسوية الملعب للرئيس القادم ابتداءً من اتفاقيات الحدود ومروراً بتغيير قيادات في الجيش والأمن وانتهاءً بإعلان الانتخابات الرئاسية والحديث عن الشرعية الدستورية والأغلبية المريحة في البرلمان والجاهزية للموافقة عن أي تعديلات دستورية تسهل جلوس ولي العهد على العرش بقناع الديمقراطية والتعددية الحزبية، وخلال هذه الفترة نفسها تجذر الفساد المالي والإداري في مختلف المرافق الحكومي وانتشر الظلم والمحسوبية والرشوة والمحاباة ونهب المال العام والصفقات المشبوهة والمناقصات المهوولة والقضايا الحقوقية وغيرها وتدهور الاقتصاد المحلي وتهديد خطر الجفاف لعدد من المدن، وانقسم الشعب جراء ذلك إلى طبقتين الأولى برجوازية في عالم الثراء تتحدث بالدولار والثانية وسط الحضيض تبحث عن الريال اليمني المنهار إلى أسفل سافلين.
وفي الخمسة عشر عاماً الماضية فقدت اليمن خيرت رجالها الحكماء وأهل الحل والعقد مثل المرحوم/ يحيى المتوكل الشيخ/ مجاهد أبو شوارب، والشيخ/ عبدالله بن حسين الأحمر، لتحتل مكانها مجموعة أشخاص من صقور المؤتمر التي صارت مع بطانة الرئيس السيئة هي الحاكم الفعلي للبلاد، وفي المؤسسة العسكرية فقد الجيش قيادات كانت هي الظهر الذي يحتمي به الرئيس منذ بداية حكمه مثل المرحوم/ محمد إسماعيل وأحمد فرج وغيرهم وتم إبعاد الرجل الثاني في هذه المؤسسة اللواء/ علي محسن الأحمر من خلال إقحام قواته في حروب صعدة الستة لتحل أيضاً محل هذه القيادات صقور العائلة التي جاءت من الكليات والجامعات العسكرية البريطانية والأميركية بشهادات وعتاد لا ينسجمان مع الواقع اليمني وليس لها أي تأثير، حينها صار صالح بين فكي مجموعة " كل شيء تمام يا فندم" ومجموعة "ما لنا إلا علي".
ورغم المرارة والمعاناة التي تجرعها الشعب خلال تلك السنوات وارتفاع الأسعار بشكل جنوني مع تواصل الجرع السعرية وعدم المساواة في المواطنة، إلا إن صالح لم يقابل شعبه بالوفاء بل تحداهم وقال "اللي ما يعجبه يشرب من البحر" وهددهم تارة أخرى بالقول "سنريكم العين الحمراء".
عندما خرجت الملايين الكادحة إلى الشارع في ظل رياح التغيير التي اجتازت الوطن العربي في ثورات ربيع هذا العام، لم يستجب صالح لدعوات أبناء شعبه ويكتفي بما قد يحصل عليه من أمول وفترة حكمه السابقة بل أعلن التحدي بالتحدي وشجع بلاطجته وقواته لقمع وقتل المعتصمين والمتظاهرين.
وخلال الثمانية الأشهر الماضية سقط آلاف من الشهداء وعشرات الآلاف من الجرحى وأدرك صالح كم هو فاشل في إدارة البلاد وأيقن أنه "لم يعد كل شيء تمام يا فندم" بعد أن تساقط نظامه الهش وتوالت الاستقالات ولم يبق معه سوى المنتفعين الذين يعدون بالأصابع وبدأت الثورة تقطف ثمارها وتواصل سيرها باتجاه النصر الكبير والانتقال إلى الدولة المدنية الحديثة التي ينشدها الملايين من أبناء الشعب، ولا صوت يعلو فوق صوت الشعب وإرادته.