إن حكماً فاشلاً استمر عقوداً ثلاثة يسوس البلاد وأهلها بذات الفشل حتى أوصلها إلى ما هي فيه من الفشل، لهو حكم ناجح بامتياز على الأقل في إفشال كل مسعى ناجع رام إلى إخراج البلد مما غرقت فيه.
وهنا يبرز جوهر مشكلتنا مع هذا النظام وعدم القدرة على التعايش معه – بما هيته التي هو عليها- لسببين أحدهما: أنه – أي النظام- أجهز على كل شيء يبعث على الأمل في إصلاحه، والثاني: أنه – أي النظام- لم يثبت فشله الذريع والفظيع بكل مهارة واقتدار فقط، بل صار منبعاً للفشل ومصدراً له يمده بأسباب الحياة ويحوطه بكل وسائل الرعاية والحماية..
وبلغ الخطر مبلغه حين صارا قرينين يتماهى أحدهما في الآخر، فالفشل هو النظام والنظام هو الفشل وفي اعتقادي أن هذا المآل جدير بزلزلة ونفض كل البنى السياسية في الذهنية اليمنية وقيام قيامة سياسية شعبية وليس ثورة شبابية فقط.
ولعلّي أستطيع القول: إن فشل هذا النظام أمر لوحظ مبكراً وأدركه الكثير من اليمنيين الذين أرجأوا الإعلان عن الإدراك المبكر باعتبار أن الحكم عليه سيكون استباقياً وغير منصف، أما الآن فأجزم أن عدم صلاحية هذا النظام أصبح أمراً مفروغاً منه لدى جل اليمنيين – وإن تحفظ البعض على ذلك- إذ أن هذا يتوافق مع كل ما ذهب إليه المحللون والدارسون والمعنيون بالتاريخ السياسي، فهؤلاء اعتقدوا أن النظام اليمني سيكون أول الأنظمة سقوطاً وبمدة لا تتجاوز الأسابيع أمام الثورة الشعبية وذلك باعتباره النظام الذي امتلك أهلية السقوط كاملة دون نقصان، مقارنة بنظامي بن علي ومبارك وحتى القذافي، لكنها سقطت وظل هو باقٍ فما هي الأسباب؟! وما الدوافع التي أبقت على نظام صالح حتى اللحظة؟!
والحقيقة أن الأسباب كثيرة ويصعب إيرادها كاملة، فما يمكن التأكيد عليه أنها على كثرتها ترتبط بعاملين اثنين الأول: يتمثل بالمحيط الخارجي "دولي – عربي"، ويتمثل الثاني: بالعامل أو المحيط الداخلي وتحديداً "الثورة ومكوناتها – النظام ومكوناته"، وهذا باعتقادي هو الجزء الأهم، إذ أن الخارج يكون في العادة تابعاً لمعطيات الداخل.
وبالحديث عن الثورة ومكوناتها، فإنه ما من أحد ينكر – إلا من كان مكابراً جاحداً- دور المشترك في الثورة السياسية وتعرية هذا النظام، إذ استبق الربيع العربي بسنوات طويلة من النضال والعطاء والكفاح السياسي، لدرجة أن تلك الجهود الجبارة شكلت الإرهاصات المبشرة والمهيئة بربيع ثوري من هذا الطراز على الأقل في المجتمع اليمني وهذا رصيد لن يغفله التاريخ ولا الشعب للمشترك، ولكن لأن الأعمال بخواتيمها وغلطة الشاطر بألف – كما يقال- فإن المشترك عمل بعمل أهل الثورة حتى قامت الثورة الشبابية، وأعلن الانخراط فيها دون أن يغادر المربع السياسي، بل ظل يتعاطى مع صالح ونظامه سياسياً حتى دخل جحيم صالح السياسي قاتلاً بذلك نفسه ومربكاً للثورة، لم يكن يرد بالثورة سوءاً، بل أراد بها والبلاد والشعب أيسر الطرق وأقلها كلفة، لكن ما كان له أن يغفل وهو القائل أن صالح شخص لا يمكن الوثوق به والتعامل معه والنتيجة أن سلوك المشترك هذا خطأ فادح مهما كانت نواياه، لأنه زاد الثورة عثرة والنظام حياة وطولاً في العمر.
لقد شكل المنحى السياسي الذي انتهجه المشترك قبلاً فرصة ثنائية التأثير، إذ دخلت الثورة في غيبوبة مرعبة ومنحت صالح ونظامه صكاً بمزيد من الحياة في وقت كانا فيه على وشك السقوط المتأني من الرجفة الأولى المتمثلة بجمعة الكرامة.
هنا اتضح للجميع أن صالح كان وما يزال يستخدم المشترك كورقة رابحة ولم يقف عند ذلك، بل جعل منه شرك صيد يقتنص به فرصاً جديدة للحياة كلما شارف على السقوط، وللإنصاف فإن المشترك لم يكن صاحب المبادرة في هذا المسعى السياسي – الذي هو أول ضحاياه- لولا الضغط الذي مورس عليه من العربية السعودية وهي ضغوط يكفي للإشارة على مدى قوتها أن كل الجهود والأدوار الخليجية والعربية والإسلامية والدولية صارت تتمرس خلف هذه المبادرة السعودية.. إذاً فقد وقف المشترك أمام مبادرة سعودية ما من اختيارها بد.
كانت السعودية حكماً غير محايد، إذ أعطت بمبادرتها مزيداً من الوقت الإضافي لنظام ثبت فشله في الملعب السياسي والاقتصادي والاجتماعي والشعبي في أضعاف الوقت الافتراضي الذي يحتاجه أي نظام في العالم لبناء دولة من الصفر.
التقط النظام أنفاسه وبدأ يستجمع قواه، مستخدماً بعض الجوقة الذين مردوا على الابتذال ووسائل إعلامه لذر الرماد في العيون التي تترقب عن كثب سقوطه الوشيك، ولنفث سموم الفرقة في النسيج الثوري الذي جسد بصدق أنصع صور التلاحم والاتحاد.
وقد نجح الرجل إلى حدٍ كبير على الأقل في تثبيت السواد الصامت عن أي حراك قد يبدونه حيال الأحداث الجارية، ومن الطبيعي والطبيعي جداً أن يكون طول الوقت الإضافي الممنوح عاملاً مهماً من عوامل نجاح النظام وصاباً في مصلحته وهو ما حصل بالفعل، وبالتالي فإن طول هذه الفرصة السعودية حقيقة والخليجية مجازاً الممنوحة للنظام والتي هي بدون أجل مسمى حتى الآن والتي استعصت على الموت رغم أن صالح قتلها أكثر من مرة والمشترك دفنها مرات عديدة، بالإضافة إلى الجهود الجبارة التي يبذلها النظام إعلامياً وسياسياً والمدعّمة بمليارات الخزينة العامة لتشويه الثورة وشق صفوفها وترميم عراه وتحصينه من أي انهيار مفاجئ.. كل هذا قلب الموازين وأصبح الإنسان العادي يتوقع سقوط الثورة بدلاً من سقوط النظام.
إن نسائم الربيع العربي التي هبت مؤخراً تركت في اللاوعي العربي وعياً جيداً بالتغيير والإيمان به وضرورته الحتمية لاستقامة الحياة المنشودة، وهذا الوعي الذي يعد بصدق أعظم إنجاز قدمه البوعزيزي لأمته العربية والإنسانية بشكل عام، هذا الوعي الناشئ يجب أن يغذي ويمد بأسباب الحياة والرعاية والحماية وهذا ما لم تهتم به الثورة في اليمن، إذ أن الإعلام الثوري لم يوجه بشكل صحيح أو بمعنى آخر لم يراع التنوع المجتمعي والمستوى الثقافي، فهو في مجمله خطاب أو أعلام قاصر وموجه للنخبة المثقفة أو ذات المستوى الثقافي المتوسط وهؤلاء لم يعودوا بحاجة إلى توعية، بل الواجب عليهم أن يباشروا مهمة التوعية الثورية، لا يجب على المعتصم في الساحة أن يرضى بالقعود دون لعب دور أكثر أهمية وفاعلية، فأن تقنع شخصاً أو شخصين بضرورة التغيير والمشاركة في المسيرات من ذلك السواد الصامت خير من أن تعتصم شهراً أو شهرين في الساحة، يجب على الإعلام الثوري أن يكون متنوعاً، يركز على الغالبية الأمية المسحوقة التي يسهل على النظام استغفالها والتأثير عليها، يجب على الإعلام الثوري أن يعرف أن "50%" من اليمنيين لا يشاهدون سوى وسائل الإعلام الرسمي لأنها الموجودة والمتوفرة لديهم وهؤلاء هم من سيرجح الكفة، سواء بالصمت أو بخروجهم إلى الساحات.
وأنا هنا أستغرب كيف تصرف الثورة نظرها واهتمامها المطلق عن الإعلام الرسمي وما فيه من موبقات، مكتفية بأن تقول: إن لا أحد يصدق هذه القنوات أو يتابعها، هذا في الواقع أمر غير معقول وغير مقبول، كنت أتمنى على اللجان الإعلامية الشبابية أن تخصص فريقاً متمكناً للتواصل مع هذه القنوات الرسمية حتى يكشفوا زيفها ويعروها على حقيقتها بدلاً من إخلاء الجو لها، لتمرح في الغي والتضليل.
وهنا يجب الإشارة إلى الدور الفاعل الذي حققه برنامج "عاكس خط" ومقدمه/ محمد الربع، فهو على تواضعه إلا أنه أصبح يشكل خطراً على الإعلام الرسمي ولن أبالغ إذا قلت أكبر من الثورة نفسها في نظر هذا الإعلام، كأن الثورة آمنت واستيقنت من سقوط صالح ونظامه – وهو لا شك سيسقط بها أو بدونها- لكن إيمانها هذا جعلها تأمن مكر الساسة ومراوغتهم بما فيهم صالح الضليع في المراوغة والكيد السياسي.
استحبت الثورة القعود والركون على المخلص المجهول الذي لا ولن يأتي وهذا يتنافى مع فطرة الفعل الثوري الخالصة، بينما صالح الذي استيقن من أن هذه الثورة نهاية لحكمه وصراطه نحو السقوط لم ييأس، بل رفع شعار لا مستحيل مع الحياة، فكثف الجهود وضاعفها واستغل الوقت أيما استغلال والنتيجة أنه حقق مزيداً من فرص البقاء وأمن ما تبقى من مراكز القوى التي ارتكز عليها نظامه المديد وتتجلى الجدية التي انتهجها النظام في توظيفه لكل ما يعتقد أنه سيفيد سواء في المجال السياسي أو الإعلامي حتى أن عبده الجندي ويومياته صارت حجة لدى العوام وموضوعاً لنقاش المثقفين بدلاً من الاهتمام بالثورة ويومياتها وفي كل الأحول فإن هذا لا يعد انتصاراً للنظام على الثورة مطلقاً، لأن الثورة باقية ولا تزال قوية، إلا أن قليلاً من الهنات الهينات تمد صالح بوقت أطول، علماً بأن الوضع المعيشي يزداد سوءاً يوماً بعد يوم والمواطن العادي وبفعل التحريض الإعلامي وتشويه الثورة صار يعتقد أن الثورة هي السبب وهذا أمر خطير يجب أن توضح فيه الحقائق للناس من قبل الإعلام الثوري.
إننا ننضج هذا الحروف باحتراق مشاعرنا وأرواحنا وأملنا أن تجد آذاناً صاغية تأخذ كل الاحتمالات بعين الجدية والاعتبار.