تحدثنا في الحلقة الثالثة من "جهود هيئة علماء اليمن في معالجة الأحداث" عن رؤية العلماء لتدهور الأوضاع في اليمن وتداعيهم لندوة عقدت بصنعاء بتاريخ 6 ذي القعدة 1428هـ، الموافق: 15/11/2007م وقد حضرها عدد من كبار علماء اليمن من مختلف الاتجاهات والتيارات وسعى العلماء الحاضرون في الندوة للخروج بحلول عملية، قياماً بواجبهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصح لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، وبياناً للموقف الشرعي في تلك الأوضاع وقد صدر بيان عن الندوة يومها، شخص المشاكل وطرح الحلول العملية لها ولكن السلطة لم تسجب له، فقام العلماء بدورهم وأبرأوا ذمتهم كما تحدثنا في الحلقة الماضية عن الموقف التاريخي لعلماء اليمن في رفض التدخل العسكري الأجنبي في اليمن وفتوى العلماء بوجوب الجهاد في حال حدوث تدخل أجنبي عسكري في اليمن..
وفي هذه الحلقة سنتناول جهود هيئة علماء اليمن في معالجة الأحداث في مطلع الثورة الشبابية السلمية، حيث سعى العلماء إلى تحقيق ما يطمح إليه الشباب اليمني من إصلاح للأوضاع، وإقامة للعدل، ورفض للظلم والاستبداد، وإرجاع الحقوق إلى أهلها، دون حصول تلك الأحداث المريرة والمؤلمة التي صاحبت الثورتين ثورة تونس ومصر وقد عقد العلماء مؤتمراً صحفياً بمنزل الشيخ/ عبدالمجيد الزنداني بصنعاء بتاريخ: 18 ربيع أول 1432هـ الموافق 21/2/2011 وقد حضره جمع كبير من العلماء وفي المؤتمر تم قراءة البيان الصادر عن هيئة علماء اليمن والذي وقع عليه عشرات من كبار علماء اليمن في مختلف محافظات الجمهورية.
وفي ذات المؤتمر أجاب الشيخ/ الزنداني عن التساؤلات التي طرحها الصحفيين حول الوضع الراهن يومها ووضع النقاط على الحروف وأكد حينها على شرعية الثورات العربية وأن الأمر الذي جعل بعض الشعوب تثور على حكوماتها وأنظمتها، كما حدث في الثورتين الشعبيتين الرائدتين السلميتين في تونس ومصر، اللتين أفضتا إلى إقامة حكومتين انتقاليتين مؤقتتين لتصريف أمور البلاد والإشراف على انتخابات حرة ونزيهة، يتمكن فيها أبناء البلدين من اختيار نوابهم وحكامهم، وقد كان لهاتين الثورتين أثرهما على بقية البلدان والشعوب العربية ومنها اليمن، غير أنه صاحب هاتين الثورتين قمع واعتداء وسفك للدماء وإزهاق للأرواح، فهل نستطيع يا أبناء يمن الإيمان والحكمة تحقيق ما تطمح إليه الشعوب من إصلاح للأوضاع، وإقامة للعدل، ورفض للظلم والاستبداد، وإرجاع الحقوق إلى أهلها، دون حصول تلك الأحداث المريرة والمؤلمة التي صاحبت الثورتين؟!.
وأكد بيان العلماء يومها على أن الشعب اليمني المعروف بحكمته التي شهد بها الرسول صلى الله عليه وسلم يستطيع بعون الله تعالى وتوفيقه أن يحقق مطالب الشباب اليمني دون أن يتعرضوا للعنف وإراقة الدماء وأن يتجنبوا بعض السلبيات التي رافقت ثورتي تونس ومصر من منطلق حرص علماء اليمن على حقن دماء أبناء الشعب اليمني، لعظم حرمة الدم، وعظم جرم قتل النفس وإزهاق الأرواح، مشددين في ذلك الوقت وكل وقت على أن الكتاب والسنة هما المرجعية لكل المسلمين، حكاماً ومحكومين عند التنازع والاختلاف..
لقد راهن العلماء يومها على حكمة أبناء اليمن ووعيهم، فتجلت هذه الحكمة في شباب الثورة السلمية، الذين كانوا وما يزالون بشهادة الجميع في غاية الحكمة والرقي، بعيدين عن التسلح والعنف، رغم الهجمات والاعتداءات المتكررة عليهم وخاب رهان العلماء على السلطة، فلم تستجب لمطالبهم وللحلول التي قدموها كإجراءات إسعافية وحلول عملية، لكن السلطة تعامت عن سفينة نجاتها وواصلت طريق الأنظمة في مصر وتونس من قمع للشباب وتشبث بالسلطة، أدى إلى مخاطر عديدة وتسبب بإرهاق أرواح كثير من الشباب اليمني وما يزال يهدد بكوارث إذا لم يتدخل العقلاء ويضغطون على صالح لترك السلطة وتجنيب اليمن الدخول في متاهات العنف والاحتراب.
العلماء يدعون لوحدة الصف وجمع الكلمة:
دعا العلماء يومها إلى جمع كلمة أبناء اليمن، وتوحيد صفوفهم، والحفاظ على أمن البلاد واستقرارها، وترك كل ما يؤدي إلى إحداث الفرقة والنزاع، وإثارة الفتنة، وإيقاع العداوة والبغضاء، وإثارة النعرات الجاهلية، والعصبيات الطائفية والمناطقية، كما دعوا جميع أبناء اليمن من سائر القيادات والزعامات والقوى والفعاليات من جميع المحافظات والمناطق والقبائل اليمنية لعقد مؤتمر وطني جامع، لتدارس أوضاع اليمن الحاضرة، والاتفاق على الحلول لمشاكلنا الراهنة، والتوافق على تشكيل حكومة إجماع وطني مؤقتة من أهل الكفاءات؛ بحيث تكون متوازنة، تتوزع فيها الحقائب الوزارية السيادية بين الكفاءات من أبناء المجتمع اليمني حتى لا يكون فيها هيمنة لطرف على آخر، وذلك لتسيير أعمال البلاد، وتقوم بالإشراف على تمكين الشعب من اختيار نوابه وحكامه برضاه، وفي أجواء حرة ونزيهة وآمنة، واتخاذ الإجراءات والضمانات التي تحقق ذلك خاصة، وقد تضمنت خطابات رئيس الجمهورية ما يؤيد مضمون ذلك ورفضه مبدأ التوريث والتمديد.
شرعية المظاهرات والاعتصامات:
وقد رأى العلماء يومها أن التجمعات والاعتصامات وسائر الفعاليات الجماعية والمظاهرات السلمية التي لا اعتداء فيها على مال أحد أو عرضه أو دمه أو أي ممتلكات عامة أو خاصة، هي نوع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن يجب ممارستها بالضوابط الشرعية سواءً مورست بطريقة فردية أو جماعية، ويجب على الدولة أن تقوم بواجبها في حماية هذا الحق وضمان ممارسته، ولا يجوز لها أن تمنع أحداً من ممارسة هذا الحق، فضلاً عن الاعتداء عليه أو اعتقاله، وكل اعتداء بالضرب أو القتل أو غيره هو جريمة عمدية لا تسقط بالتقادم، يعاقَب عليه الآمر والمنفذ، وقد بيّن النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم حرمة الدماء بقوله: «لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً» [رواه البخاري].
وقوله صلى الله عليه وسلم: «لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم» [أخرجه الترمذي].
ولا يجوز الطاعة لأحد يأمر بهذه المعصية لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» [رواه الترمذي].
كما نبه علماء اليمن يومها بأنه لا يحق لأي مظاهرة أخرى مخالفة أن تتجه إلى نفس مكان المظاهرة الأولى، منعاً للفتنة وصيانة للدماء، وكذلك يحرم أي اعتداء بالضرب أو القتل أو غيره على القوات المسلحة والأمن؛ «فكل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه»، كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، كمحاولة جادة من العلماء لمنع أي صدام بين مؤيدين ومعارضين لصالح، ينتج عنه إراقة الدماء أو الاعتداء على المتظاهرين من أي طرف.
دعوة السلطة إلى إصلاح القضاء:
وكرر العلماء يومها دعوة السلطة إلى إصلاح القضاء وفق أحكام الشريعة الإسلامية، وسرعة اتخاذ الخطوات العملية لتحقيق المبدأ الدستوري الذي ينص على استقلاله، كما نصت على ذلك المادة (149) من الدستور: "القضاء سلطة مستقلة قضائياً ومالياً وإدارياً"، ويمكن القضاة من الاختيار الحر لمجلس القضاء الأعلى.
العلماء يحرمون الاعتقال والتوقيف التعسفي:
وحرم العلماء يومها في بيانهم ما تقوم به السلطة من توقيف أو اعتقال تعسفي، ودعا البيان لحظر تعذيب السجناء جسدياً أو نفسياً أو معنوياً، داعين السلطة إلى اتقاء للظلم ودعوة المظلوم، كما قال صلى الله عليه وسلم: «واتق دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب»، وقد نص الدستور في المادة (48): "بأن الدولة تكفل للمواطنين حريتهم الشخصية، وتحافظ على كرامتهم وأمنهم، وتحظر التعذيب بكافة صوره وأشكاله، ووجوب إطلاق سراح جميع المعتقلين والسجناء خارج إطار القضاء"، وهو موقف متقدم ورائع من العلماء، كان ينبغي على منظمات حقوق الإنسان والمهتمين بالحقوق والحريات البناء عليه أو حتى الإشادة به.
وشدد العلماء يومها على محاسبة كل من باشر أو تسبب بضرب أو قتل المتظاهرين سلمياً أو الصحفيين والإعلاميين، وكذا محاسبة كل من ثبت قضاءً اعتداؤه على الممتلكات الخاصة والعامة في الأحداث الأخيرة، أو اعتدى بضربٍ أو قتلٍ على أفراد الشرطة والجيش، وسرعة إطلاق سراح المعتقلين على ذمة المظاهرات والاعتصامات السلمية.
إصلاحات عاجلة وحلول سريعة:
لم يكن علماء اليمن في مؤتمرهم ذلك وبيانهم الصادر عنهم بعيدون عن الواقع، وهو واقع منذر بالخطر، بل كانوا يدركون المخاطر المحتملة من اصطدام شباب الثورة بعنف السلطة وقدموا يومها إصلاحات عملية وعاجلة وحلول سريعة وضعوها على طاولة السلطة مثل:
1. سحب وإلغاء جميع الإجراءات الانفرادية التي أدت إلى تأزيم الأوضاع، وإقالة كل الفاسدين والعابثين بمقدرات الأمة..
2. محاسبة من ثبت قضاءً في حقهم وفق أحكام الشريعة الإسلامية وتشكيل لجنة متفق عليها من العلماء والقضاة المشهود لهم بالنزاهة والصلاح، يستعينون بمن يرونه من الخبراء والمختصين للبت في قضايا النزاع بين جميع الأطراف.
3. ضمان جميع الحقوق والواجبات والحريات للرجال والنساء في ضوء الشريعة الإسلامية..
4. دعا العلماء إلى التعامل مع جميع المواطنين في كل أنحاء اليمن بالسوية، وإزالة أي صورة من صور التمييز الحزبية أو القبلية أو المناطقية أو أي عصبية جاهلية، وإقامة العدل وإزالة الظلم ورد الحقوق وإيصالها إلى أهلها، ومحاسبة المفسدين.
إضافة إلى بعض الإجراءات التي يراد منها معالجة أوضاع الناس المعيشية كحلول عاجلة منها: إعادة دعم السلع الأساسية والنفط ومشتقاته لرفع المعاناة عن أبناء الشعب، وعدم إثقال كاهل المواطن بالضرائب.