كثُر الحديث عن عودة الرئيس صالح، وكثُر معه المنكرون على الرجل عودته إلى وطنه الأصل وموطنه الحقيقي، وشخصياً لا أدري لم كل هذا الإنكار ولا أجد سبباً يستدعيه، لأننا بالعودة إلى النفس وبالقليل من التأمل المتريث، والظن الحسن ندرك وببساطة أن هذه العودة غير جديرة بالإنكار، فالرجل يمني ناهيك عن كونه رئيساً لليمنيين حتى اللحظة على الأقل في نظر الخارج، إضافة إلى أنه ما خرج من بلده مقسوراً ومنفياً أو مطروداً، بل أجبره حادث إجرامي على الخروج الاضطراري بغية العلاج ـ في بلد شق ظهور اليمنيين لكونه شقيقاً- وبعد أشهر ثلاثة من الإشراف الطبي والرعاية الصحية وحين انقضى هذا الغرض وتماثل الرجل للشفاء عاد إلى بلده وهذه العودة وإن كانت مفاجئة لكنها لا تحتاج إلى كل هذه البلبلة والإنكار، إذ أن كل دواعيها تُدرك بيسر وسهولة، فمن يدري ربما خطر في ذهن الرجل بيت الأمير شوقي الشهير:
وطني لو شغلت بالخلد عنه × نازعتني إليه بالخلد نفسي
فقرر لتوه العودة دون الالتفات إلى مجريات الأحداث في اليمن أو الاهتمام بطقوس الزيارات بالنسبة للرؤساء؟ ومن يدري أيضاً ربما كان كغيره من اليمنيين وهم كثر الذين اتخذوا قرار العودة إلى اليمن مفاجأة غير آبهين بممتلكاتهم ومصادر رزقهم يوم خرجت إلى النور أغنية الأنيق أيوب طارش: إرجع لحولك كم دعاك تسقيه؟، فربما مرَّ هو أيضاً بتلك الحالة الشعورية من الحنين والشوق مع الفارق الكبير طبعاً بين العودتين، فأولئك ضاقوا من تعنت الكفيل الحجازي وتخلوا عن مصدر رزقهم وقرروا العودة، راضين بأكل التراب في الوطن بدلاً من نعيم المنفى، لذلك كانوا مغامرين، أما هو فماله وأولاده وسلطانه وملكه في اليمن.. فلم البقاء إذن؟! سيكون مغامراً إن لم يعد ناهيك عن أن العناية والرعاية الملكية سحابته الممطرة إن ذهب؟!.
أما أنا فأرجح أن الرئيس صالح لم يهنأ بالمقام الأثير المعد له في المملكة، لأنه قبل ذلك كان قد شهد لحظات تخلُق الربيع العربي الثوري ورأى بأم عينيه كيف خلعت رياح ذلك الربيع أشجار وغصون ووريقات وجذور أقرانه، فاستحضار هكذا لحظات كفيل ليس بإعاقة التشافي بل بتعميق الأرق والقلق في النفس والتفكير، لكن صالح ربما مر بلحظة صفاء سعودية خلصته من هذه الكوابيس، فعشعش في فؤاده الحنين إلى الوطن وبمعنى أيوبي: "هزه الشوق نحو الأوطان" بعد ما بارق الحسم الثوري لاح من سماء صنعاء، فاقتطف غصن الزيتون على عجل وطار إلى اليمن على جناح الحمامة، حط رحاله ودخل المدينة خائفاً يترقب، فوجد كل شيء استنصره بالأمس يستصرخه، هذا كل ما دفع الرجل لمواراة نفسه عن أعين الإعلام المرئي وتعتيم كل تفاصيل العودة والاستقبال على الجماهير التي تنتظر عودته.. لا أدري ما الذي يقودني إلى قول ما لا أنوي الحديث عنه، فما أردت الكتابة عنه هو إنكار المنكرين على الرئيس عودته والسؤال القديم الجديد لماذا هذا الإنكار؟! ها هو اليمن بكل محافظاته يحتفل بالعودة فرحاً ويملأون سماء اليمن رصاصاً وأجواءه انفجارات وقنابل فرحاً بهذه العودة للرئيس الصالح، يحتفلون كل في محافطته أو مقر عمله وهذا أقل واجب عليهم، فالرجل بتجاهله لم ينكل بالمكلا ولم يسئ يوماً لسيئون، ولم يحضر للموت كل ما يحتاجه في قتل "حضرموت" وهو ذاته ليس مجحفاً بحق "حجة" التي لا يحج إليها إلا نسيء حكمه وحكامه.
هو لم يهرب "المهرة" عن الأنظار وينتهكها بالمهربين المَهَرة ويترك "صعدة" بحروبه الست قاعاً صفصفاً كأن لم تغن بالأمس ولم تكن جنة الرمان في دنيا اليمن.
هو لم يحرج نفسه بالسؤال عن من حجر أراضي "لحج" عن أهلها وحرمها عليهم ولم يكن جائراً على الجوف رغم ما أغدق عليها حكمه من الحرمان والبؤس.
هو لم يبتكر بلاد القاعدة لإبادة أبين ولم يُعَِّمر العنصرية والصراعات القبلية في عمران، وهو ذاته الذي لم يُعتق شبوة من الشقاء والاختطاف، ولم يخصص لثروته وورثته ومآربه كل موارد وثروات "مأرب" وأبداً لم يرض بالوضع المذل له ولحكومته في "ذمار" وهو أيضاً لم يضف إلى "البيضاء" طوال حكمه ما يلغي نظارتها وكلما مدت يديها إلى جيب حكومته أخرجها بيضاء إلا من سوء سياساته.. لم يوح بما يبعث الحياة ويحيي الأحياء في "المحويت" وهو حتى وإن أخذ من "إب" كل شيء وجعلها بليدة بالية بلهاء أعطاها باذخ بذله المتمثل في مدحه لها بالبطلة.. وهو لم يحاصر "الحديدة" ولم يحل بينها وبين التطور، ولم يحجبها عن البحر لتصبح عانساً موشحة بالحداد على كل أحلامها المذبوحة بدلاً من كونها أو عروساً فاتنة لمياه الأحمر.. هو لم يكن يوماً حاملاً في قلبه ضغينة على "الضالع" وليس ضالعاً في فوضاه وضمور النمو المدني فيه، ولم يمر ذات زمن بـ"ريمة" كي ترميه ببؤسها وحرمانها الصارخ.. إنه هو بذاته وعينه لم يعزل "تعز" عن الحياة ولم يبالغ في تعزيرها بقيران وجبران والعوبلي مؤخراً، هو لم يفعل ذلك ولم يعدم كل شيء جميل حتى الروح المدنية في "عدن".. فكيف تنكرون عليه العودة وتزعمون أنه من فعل ذلك كله وأنه نفسه العائد سراً إلى صنعاء ليصليها حرباً ويصطفي لخصومه ومعارضيه والثائرين عليه كل أسلحته وقناصته المخلصين وأنه ما عاد إليها إلا لينتقم ويبدأ تصفية حساباته الشخصية.. فما لكم كيف تحكمون؟!.
صحيح أنه جار على شعبه بمجور ولم يراعِ مشاعر هذا الشعب بالراعي، بل وزاد أن هزم هذا الشعب بنائبه منصور وواضح جداً لليمنيين وللعالم كله أنه هو من قتل الحقيقة بالجندي، وقنص المصداقية، بالصوفي، واغتالها ببن دغر.. ولكن هذا لا يبرر لكم إنكار العودة عليه، نعم نحن نعرف أنه أدمى الديمقراطية بأموال الشعب وأملاك الدولة، ونحر الانتخابات بالخيانة والتزوير، لكنه لم يطو بأطماعه الوطن أو يتواطأ عليه ولم يوطن الأزمات في عيش وحياة المواطنين، لم يُجهز على الجمهورية ويجهر بمضمونها الملكي العائلي، لم يشوه الشرعية بشعاراتها إدعاءاً وشراء ذمم الولاء لها، لم يقزم القانون لا قولاً ولا فعلاً ولم يدنس الدستور بممارسته السياسية، لم يذبح الوحدة باحتكاره وحروبه وعدم حياده ولم يحمل كل الوحدويين على اللجوء إلى خيار الانفصال المرير.. فأعيدوا حساباتكم أيها المنكرون عليه عودته؟!.. تزعمون أنه من شمت بنا الأمم والبلدان وأنه هو من يشير إلى كل ما نحن فيه من شقاء العيش وشحة المعاش فقط لأنه المشير!! تدعون أنه قاد شعبه إلى يم الردى والوضع القاتل وقدم شعبه قرباناً للقهر والحرمان فقط لأنه القائد!!، وتزعمون أيضاً أنه باع الغاز واستأثر بالثروة وأوعز إلى معاونيه بافتعال الأزمات لهذا الشعب فقط لأنه الرمز!!.. وتقولون إنه ليس كجده الحميري الذي استقدم الفرس لطرد الأحباش من اليمن، بل إنه خالف جده فاستقدم الأحباش واستأجرهم لطرد اليمنيين من اليمن فقط لأنه ابن اليمن البار.
تعتبون عليه بجريرة أبنائه.. صحيح أن الرئيس بشر برئيس من بعده أو من نسله اسمه أحمد، لكنه لم يخلقه بيديه، بل خلقه الله وعلمه وآتاه الحرس الجمهوري فضل من الله والله يفعل ما يريد.. صحيح أنه تكفل يحيى وإخوته بعد وفاة أبيهم وحين كبر يحي قال له يا يحي خذ الأمن المركزي بقوة ولما لم يكبر عمار كان يقول له صبراً يا عمار فموعدك الأمن القومي.. فما ذنب الرجل وما جريرته وكيف جاز لكم إنكار العودة عليه لوطن هو له رئيساً.
ما بعث استغرابي واستنكاري إلى اللحظة ليس عودة الرئيس ولا مفاجأتها ولكن مقالته غداة وصوله اليمن حين قال: "لقد جئتكم حاملاً غصن الزيتون في يدي وعلى كتفي حمامة السلام"، لم أتقبل هذا الكلام حتى الآن ليس لأن الزيتون صار هوزراً كما اتضح ولا لأن الحمامة صارت حِمام موت وحمامات دماء ولكن تساءلت كيف لواد غير ذي زرع كالمملكة السعودية أن ينبت غصن الزيتون وشجرته التي اقتطف صالح غصنه منها.. فهل من خبير يُنبئ عن هذا..
عبدالمعين المضرحي
إلى الذين أنكروا على الرئيس عودته 2193