رأيته يجلس القرفصاء في إحدى زوايا المدرسة التي أصبحت له سكناً جديداً.. كان الرجل غارقاً في الهم والمعاناة، سابحاً ـ بفكره ـ في سماوات الوجع العام، ودروب الألم الآتي من عمق المحنة التي أجتاحت محافظته "أبين" دون سابق إنذار.. كان شارد الذهن مسلوب الإرادة وكأنه يحمل هموم الدهر.. هو رجل طاعن في السن من أبناء محافظة أبين القاطنين في مدارس عدن.. قذفته الأقدار ـ كما غيره ـ ليصبح لا مأوى، يلوذ بالفصول الدراسية.. يبحث فيها بين الأجساد البشرية المتكدسة عن موطأ ظهر يحشر فيه جسده الهزيل الذي أعياه الهم، وأرهقه الألم وتكسرت مجاريفه كما يبدو.
تقدمت نحوه، سلمت عليه، قلت له: إيه يا حاج مالك مهموم؟! خليها على الله، أصبر فإن الصبر مفتاح الفرج.. رد عليَّ دون أن يعيرني كثيراً من الاهتمام قائلاً: "من خرج من داره قل مقداره" ألا ترى ما نحن فيه؟! هل يُسر صديقاً أو يغيض عدو؟! واسترسل قائلاً: مازلت غير مصدق بما جرى لنا.. أربعة أشهر ونحن مبعدون عن بلدنا وطننا ولا أحد يدرى متى تنفرج أزمتنا ونعود إلى ديارنا إلا الله وحده.. أربعة أشهر والقوات العسكرية الهائلة لا تستطيع تطهير زنجبار من بضعة مسلحين لا يتجاوز عددهم العشرات؟، هذا أمر محزن ومحيَّر.. هذه حروب لا نعلم كيف بدأت ومتى تنتهي، والذي نعلمه جيداً إننا نحن الضحايا وغيرنا يستمثر جراحاتنا، ويقتات على آلامنا، هل ماتت الضمائر؟!. هل تحجرت القلوب؟، هل يعلمون إننا لا نملك قوت يومنا؟!، أم أنه كتب علينا الشقاء وكتب لمن ولا هم الله أمرنا النعيم والرخاء على حساب معاناتنا نحن الضعفاء.. وكأن هؤلاء الوحوش البشرية لا يخشون رب الأرض والسماء.. وما يضاعف مأساتنا أنهم يريدون إخراجنا من المدارس.. فأين نذهب ونحن لانملك قيمة الايجارات؟! ثم عجز عن الاسترسال في الكلام وتغيرت ملامح وجهه.. وظننته قد هم بالبكاء.
قلت له: هون عليك يا رجل واسمع قول إبراهيم بن أدهم حين وجد رجلاً مهموماً مثلك فسأله قائلاً:
ـ ياهذا أيكن شيء في هذا الكون بغير مشيئة الله؟! قال الرجل لا
ـ أينقص من رزقك الذي كتبه الله لك شيء بغير إرادة الله؟! قال الرجل لا
ـ أينقص من أجلك الذي أجله لك الله دون رضا الله؟! قال لا
قال إبراهيم ابن أدهم للرجل المهموم: إذن لم كل هذا الهم يا عبدالله؟!
يا صاحب الهم إن الهم منفرج فابشر بخر فإن الفارج الله
الله يحدث بعد العسر ميسرة لا تجزعن فإن الكافي الله
ترى كم هي المظالم التي يتجرعها أبناء هذا الوطن.. كم من المظلومين
يبتهلون إلى الله أن ينتقم لهم ممن ظلمهم؟! هل حلت بهذا النظام الظالم لعنة البرامكة؟!
قال البرمكي لأبيه وهما يقبعان في غيابة السجن: يا أبت أبعد العز والفخار نصير إلى هذا الوضع؟! فأجابة الأب: يا بني إنها دعوة مظلوم سرت بليل وغفلنا عنها ولم يغفل عنها الله جلت قدرته.
منصور بلعيدي
ألا يخشون لعنة البرامكة؟! 2334