الكاتب هو ذلك الإنسان الذي تتحول قطع الحجارة بين يديه إلى ماس خالص، إنه الشخص الوحيد في العالم الذي يصف الموصوف خارج حدوده الظاهرة، لأنه يغوص داخل المفردة، يعبث بقواعد الزمان والمكان وفق ما تراه مخيلته وتبدع قدرته وتشتهي عبقريته، إنه الإنسان الذي جعل شاشاتنا الفضية زاخرة بعالم الواقع الذي خالطته الأحلام وامتزج به ناموس الخُرافة، وهو من يرسم على وجوه الآخرين ابتسامات تتزاحم في حضرة دموع، وصرخات تحبس خلفها أنّات صامتة، وأسوار تخفي عن أعيننا ما تراه عيناه فقط.
الكاتب إنسان ذو فطرة هلامية، شديدة الالتصاق بكل ما حولها من بشر وطبيعة وحيوان وحتى بعض روابط الروح مع عاملها الآخر، إنه القاتل والمقتول، السجان والسجين، الظالم والمظلوم، الأليف والمفترس، وكل تلك الصفات التي تجد أو لا تجد في موصوفها مكاناً لائقاً بها، لأنه عالم من المواقف والتصورات والشخوص التي لا يستطيع أن يفهمها أحد إلا هو.
وهو ذلك الإنسان الذي يرتدي أثواب السعادة والشقاء والحزن والحبور واليأس والأمل والموت والحياة في لحظة واحدة وداخل مخيلة واحدة وضمن حزمة أحاسيس موحدة أيضاً.
الكاتب إنسان بالغ الشفافية، مرهف الأحاسيس، يعيش بصحبة أفكاره المجنونة والعاقلة حياة مشحونة بالديناميكية المفرطة، إذ لا وقت لديه للخروج ولو لبرهة خارج أسوار عقله ومخيلته التي تحيطها أسلاك شائكة من الأحاسيس وتقيم بناءها على أعمدة قوية من القيم والمعتقدات والأعراف وحتى الكثير من طفرات الروح والعقل والجسد، مجسمة في حكايا وصور ومشاهد فيها الكثير من حياتنا وفينا الكثير مما ليس فيها.
الكاتب إنسان لا يرى نفسه إلا عبر قلمه وأوراقه ومحبرته ومقعده الذي تتآكل قوائمه الأربعة هلعاً من ذلك السيل الجارف من الخواطر اللامتناهية، تصنعها ذرات جسده في لحظات التجلي والخلوة مع بشر ليس لهم وجود وزمن لم تأت به الأيام وأماكن ليست موجودة على سطح الأرض.
هو الإنسان الذي يلون سيناريوهات الواقع بألوان الخيال الرائعة الوصف، و يمسح عن وجه الأيام غبار اللحظات الثائرة وينسق عقارب الساعات بأناقة بالغة لنعيش بصحبته لحظة الصمت الغارقة بالبوح في همسة فرح أو مسحة حزن أو لمسة أمل.
علم آخر نحياه بين سطور ورثها التاريخ عن أصابع بشر، بشر يرون في قطرة الحبر محيطاً من الجليد أو جبالاً منصهرة من الحمم، وفي تلك الأوراق الحائرة بين أيديهم سهولاً وهضاب وشوارع ومدن وكل شيء.. كل شيء، إنه الشخص الذي يسافر عبر مركبة الروح إلى كل زوايا الكون ليعود محملاً بعقيق الحروف وسبائك المفرحات وماس المعاني، إنه الشخص الذي يصنع بيديه شراب الروعة الأدبية بكل مقاييسها وموازينها الحسية والملموسة، الظاهرة والباطنة، الساكنة منها والمتحركة.
في حضرة كاتب يعيش المرء أثمن لحظاته على مائدة عامرة بألذ ما صنعه خيال الإنسان، الإنسان الذي حصل على حرفه كمنحة ثمينة وإن كان لها شطحات وطفرات وساعات تمرد، إلا أن الحرية تبقى محبرة الكاتب ومنضدته وعصاه.
نعم، يمكن أن يكتب السجين، لكن ما كل سجين يعيش بعقلية حرة وفكر أبي.
الكاتب الحر الذي لا تخلقه الظروف ولا تشكله الاتجاهات هو من يستطيع أن يبحر إلى عالم الإبداع دون أن يقف خلفه ظل أو يسبق موكب أسطره عاصفة، الكاتب الذي نزه عقليته من عبادة السلاح ولم يسجد لصوت أو يرجع لصورة.
هو إنسان لا يخضع لفانتازيا العصر التي صورت أزهارنا بنادق ورصاصات العود، قُبلات وسلاسل السياسة نياشيناً، إنه الشخص الذي يقود أسراب المفردات بجناحين خافقين وقلب مضيء تماماً كما فعل البردوني صاحب القلب المضيء والعينين المطفئتين.
في حضرة كاتب تتجانس رؤى الحقيقة والخيال وتتطابق معطيات الحلم واليقظة وتتشابه مخرجات الممكن والمستحيل في نصوص حاضرة لحياة غائبة، عرفها الكاتب في مخيلته فقط، لكنه استطاع أن يجعلها حقيقة ويرسمها كفكرة في فيلم أو مسلسل أو... أو حتى إعلان ذكي.
ألطاف الأهدل
في حضرة كاتب 2274