ربما تكون الأزمة التي يعيشها الوطن حالياً قد أفرزت الكثير من المواقف وفضحت الكثير من النوايا وأظهرت العديد من الاتجاهات على مستوى سلوك الأفراد وانتماءاتهم وتعدد رغباتهم السياسية والاجتماعية، كما أنها وعلى مستوى جغرافي أظهرت أهمية مسألة التوحد في إطار الهدف وضمن مساحة الوطن، إذ يعلم الجميع اليوم أهمية بقاء الوطن تحت راية الوحدة رغماً عن أي معطيات سياسية مختزلة في أنظمة ديمقراطية قديمة أو حديثة أو قيد التجديد.
والأزمة أيضاً أظهرت دور الحدود الجغرافية لمساحة الشارع الذي انطلقت منه مطالب الشباب، معلنة عن ولادة الحرية والتغيير والصمود في شكلها الجديد وحُلتها المميزة.
لكن الأزمة أيضاً تطورت وأصبح من الصعب اليوم الاعتماد على مجرد ساحات من أجل العودة إلى مربع تشاوري سلمي يجب أن يقف الجميع بداخله كضرورة حتمية بعد أن تعددت الجهات المسلحة وظهر الانقسام والتخريب والنهب والأخذ بالثأر كمشاهد جديدة على مسارح الأحداث، لم تكن موجودة في أوطانهم، لكنهم للأسف لم يحظوا إلا بمقابر جماعية حملتهم إلى الدار الآخرة ضمن زوبعة هذه اللحظة.
والمهم أن دور الساحات الآن يجب أن يكون قد انتهى لتبدأ مرحلة جديدة، تعتمد على حماية الوطن ومنجزاته من تطرف أصحاب الرؤى الانتهازية الذين يبحثون في الرماد عن جمرة تعيد اشتعال النار من جديد.
نحن اليوم بحاجة إلى مساحة حرية أكثر من الحاجة إلى ساحة حرية، بحاجة إلى قدرة وإصرار على التغيير أكثر من ساحة تغيير، بحاجة إلى رغبة في الوصول إلى قمة العطاء المادي والمعنوي الصامد أكثر من الحاجة إلى ساحة صمود، حان الوقت لتتبلور المعتقدات وتظهر الأفكار البناءة ويصبح للوطن أدمغة مفكرة وجادة وقادرة على طرح آراءها واحتواء آراء الآخرين من خلال فرض مصلحة الوطن أولاً ووضع أمان أبناء الوطن كعنوان على رأس أجندة الاتفاق بين أطياف الصراع السياسي في الوطن.
ينبغي أن يستفيد الجميع من هذا الدرس الصعب الذي يمر به الوطن، إذ تحول صراع القوى السياسية فجأة إلى صراع قوى شعبية وظهرت طفرة عنف بغيضة، تمونها أحقاد دخيلة على مجتمعنا لما حملت من تكتيك جماهيري منظم وأوقعت ضحايا من كل حرب وفئة واتجاه ومنطقة وقبيلة، الكل أصبح معبأ فكرياً بالكثير من الشعارات التي لا تخدم إلا الشيطان وأعوانه من بني الإنسان.
نحن اليوم بحاجة إلى فكرة تطورية، تحديثية، نسخة طبق الأصل عن فكرة الوطن الحديث لأولئك الأشخاص المبدعين من شعوب العالم الذين صنعوا التغيير وزرعوا بذور الحرية وقطفوا ثمار الصمود دون أن يتجاوزوا حدود الإنسانية ودون أن يدمروا البنية التحتية لأمة عملت بجد ودقة ورؤية لتسير على أرصفة نظيفة من مخلفات السياسة والصراع الحزبي والأقليات العابثة والأغلبيات الناطقة باسم أطماعها ومصالحها، أرصفة خالية من بقايا الأنظمة الجائرة وأذيالها المغمورة بالزيف والفجور.
نحن بحاجة اليوم إلى حاسة حُرية تضاف إلى حواسنا الخمس حتى نستطيع أن نكسر القيد وننطلق.
ألطاف الأهدل
حاسة حُرية ...... 2016