صدح صوت إمام جامع العيدروس بمدينة كريتر محافظة عدن بالترحيب بقدوم شهر رمضان بصوت شجي، فتردد صداه في شرفات المنازل المجاورة للمسجد، ليصل طرياً عذباّ بنبرة صوفية موحية إلى مسامع الساكنين في الحارة وكانت أم أحمد –أحد الساكنين بجوار الجامع وهي إحدى نازحات أبين- وحين سمعت الابتهالات الصوفية لم تتمالك نفسها، فأطلقت العنان لدموع دفاقة تسيل على وجناتها كشلالات هادرة، تفيض مئاقيها وكأنها تحاول غسل شيئ من أدران الحزن على فراق سكنها وموطنها التي ألفته وعاشت فيه منذ عشرينيات القرن الماضي حتى أخرجها المسلحون منه اليوم.
وهذا الشهر هو أول شهر رمضاني تستقبله خارج مدينتها وأهلها وناسها، وحين اشتد بها الوجد تحول البكاء إلى نحيب وآهات وشجن أشجى كل من في المنزل، فانطلقت الأصوات الباكية من كل الحناجر، وتحول المنزل إلى ما يشبه المأتم، وهم يرددون الله يجازي اللي كان السبب، تحول الموقف إلى تراجيديا محزنة وباتت الأسرة النازحة تلك الليلة طاوية لم تذق طعم الغذاء، حين تحشرجت الحناجر بالغصة الدامعة، فذابت شهية المأكل والمشرب في بحر الآلام، وفارق النوم الجفون المحزونة فأزور ليلها وطال انتظار الفجر، وكانت أطول ليلة في حياة تلك الأسرة لم تعش مثلها من قبل.
حين يبكي الرجال "2":
عندما تبكي النساء، فتلك طبيعة المرأة ووسيلتها المفضلة في مواجهة المواقف، ولكن حين يبكي الرجل، فذلك يعني انسداد كل آفاق الأمل في وجهه وأعيته الحيلة ووطأة رأسه جبال الأحزان وأهرامات الألم وفقد كل وسيلة للمقاومة، فاستسلم لعواطفه وأجهش بالبكاء.
ورغم أن البكاء حالة إنسانية عامة، لكن وقعه على الرجال عظيماً وانعكاساته عليهم مدمرة، تطيح بشخصية الرجل ليهبط إلى مستوى سحيق من الضعف البشري، ذلك حال أحد نازحي أبين الذي ينتمي إلى قبيلة يقال أنها "شرسة"، ولكن لم يشفع له من هجوم العواطف الجياشة عندما قرأ قصيدة الزميل/ أحمد غراب في عموده بـ"أخبار اليوم" بعنوان "اسمي زنجبار"، ودون رضى منه لم يستطع المقاومة، لأن القصيدة تحدثت عن معاناة زنجبار، أثارت شجونه وذكرته بمدينته المنكوبة ومنزله الذي عاش وترعرع فيه وأصبح عرضة للقصف العشوائي ومصالحه التي تعطلت وذكرياته التي عاشها عشرات السنين.
منصور بلعيدي
بكائيات النزوح "1" 2267