بعد أن أصبح الرغيف بحجم الكعك البلدي وخفة الويفر الأجنبي أصبح من الضروري أن نهتف له ونتغزل به تماشياً مع موضة الرشاقة للجميع، إذ يبدو أن هذا الزمن هو زمن الاختصارات التي جعلت الحياة بكل ما فيها إيقونة على سطح الكون والأمر واضح بعد أن أصبح الحب مؤقتاً والعواطف تستهلك بشكل "سفري" وحتى الوطنية اختزلت في أشخاص وأحزاب.. لا وقت لأي شيء، ولا مكان لأي شخص، ويبقى الجوع هو الشبح الوحيد الذي يطارده الإنسان خوفاً منه.
ينشغل الجميع بالبحث عن قطعة الخبز الساخن التي تشبع الجوف في حين يقوم آخرون بإحراق السنابل وتعكير صفو المياه، ولا بد أن يستجيب القدر لهذا الظلم الذي دفع البعض للسطو والسرقة والقتل كدخلاء مأجورين على الثورة وحتى على النظام.
أتمنى أن تقام المشانق وترفع المقاصل بالعشرات للثأر ممن لوثوا في أعيننا معاني القوة وجعلوها بطشاً وفساداً، مستفيدين من حالة الخوف والحذر والترقب التي يعيشها الناس.
لا شيء أسوأ من مهرة السمسرة التي تطورت حتى أصبح المباع وطناً بكل ما فيه من خير وشر، سماسرة الوطن اليوم هم من تلك الطبقة الجاهلة والمتعثرة بسوء الخلق، هم الجبابرة والعصاة والعاطلون عن العمل وكل من عق والديه.
تراهم شعثاً غبراً سيماهم في وجوهم من أثر البغي والإجحاف، سحنة ناطقة بالكفر، رؤوس مسكونة بآفة الجهل ومفروشة بشلالات من الشعر الغجري القذر، فكر متعفن، مبادئ وضيعة، قناعات شرسة، كلاب بشرية تلهث خلف عظم المصلحة وستبقى تلهث إن حملنا عليها أو تركناها.
هؤلاء هم المنافقون الذين يبقون فاغري الأفواه في المنتصف بين فريقين اثنين لا يجيدان إلا اللعب بالنار، هؤلاء هم من عمّق إحساسنا بالخسارة وقطع الطريق بيننا وبين الحوار العاقل الذي يأخذ مصلحة الشعب بعين الاعتبار.
هؤلاء أيضاً هم الذباب البشري الذي ينتظر طويلاً ليقف بأرجله الملوثة على الجراح، يلعق الصديد ويحتسي الدم ويتلذذ بنكهة الموت التي يكرهها الآخرون.
هؤلاء هم المرتزقة الذين يعتاشون على فتات الأحداث وبقايا الوقائع، كجرذان قذرة، تسكن شقوق الأزمات وجحور المحن.
الثورة والنظام أيضاً كلاهما بريء من هؤلاء الذين أصابتهم دعوة والديهم بالويل والثبور، لأنهم لا ينتمون لأحزاب ولا يعترفون بثورات ولا يحترمون أنظمة ومهنتهم المتأصلة في سلالة الذئاب البشرية القتل والنهب والنفخ في النار ليزداد سعار الأزمة وتتقاتل كل الأطراف ويبقون كمتفرجين وكأنهم ليسوا من أبناء هذا الوطن.
أتحدث عن فئة دخيلة نصبت لنفسها محكمة وأخذت تثأر لأصحاب الدم وتنهب باسم كل الأطراف وتعتدي دون وجه حق، فئة ينبغي أن تراقب، وتحاكم وتنال جزاء ما صنعت يداها من ظلم للناس وتشتيت لقناعاتهم بالثورة أو النظام، بالحرية والتغيير، بالمواكبة والتطبيع الداخلي، بالحوار والشعور بالمسؤولية.
هؤلاء ممن قال عنهم الله في كتابه الكريم "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم" المائدة آية (33).
هم لا يحملون على ظهورهم هم المعيشة، لأنهم حين يجوعون يسرقون أقوات الناس وحين يعرون ينهبون سرابيل الضعفاء وحين يشعرون بالعطش يقطعون أوردة الحياة لدى الآخرين ليشربوا من دمائهم.
وبعد فقط اختلط الحابل بالنابل وظهرت جماعات مفسدة وباغية وجاحدة لأنعم الله، ليسوا من أبناء الثورة ولا هم من حُماتها، لا تربطهم بالنظام علاقة موت أو حياة، هم وليدو اللحظة، نتاج الأزمة، ما أفرزته هذه الغُمة التي طالت وامتدت ونضجت واستوت ولم تذق بعد حلاوتها، ويبقى كل غثاء أمام لقمة العيش التي يبحث عنها الضعفاء الذين يرون في رغيف الخبز كل معاني الحياة، ولهذا لا تحملهم الحماسة على الهتاف لأحد، فهم لا يهتفون إلا لرغيف الخبز.
ألطاف الأهدل
يعيش الرغيف.. يعيش.. يعيش 2064