أينما يممت وجهك في هذا الوطن المنهك المتهالك، رأيت جراحاً تنزف أو مدناً تحتضر أو حقوقاً تنهب أو أموالاً تغتصب أو أحلاماً توأد، بحقد وكراهية لا من فقر وإملاقٍ، ترى كل ذلك، ترى كل ما لا تستطيع احتماله من الهول المحدق والموت المصنع بأيدٍ يمنية للأسف الشديد.
لا شيء غير الذهول يعتريك ولا شيء ينتزعك من ذلك الذهول غير تساؤل بسيط، يستعصي على الإغماء، فيلسع إدراكك مراراً: عن أي شيء نكتب؟ كل ما حولك ومن حولك جدير بالرثاء، فعن أي شيء تكتب؟ ومع أن الكتابة لا تصور كل ما يعتلج في النفس ويدور في الخاطر إلا أنها مخلوق موجع لخالق أكثر توجعاً، ومع ذلك لا ندري أهي لعنة حلّت علينا أم أننا لعنة أصابتها، حتى صرنا نكتب فلا نشبع ونقرأ فلا نروي، فعن أي شيء نكتب؟!
النظام، المعارضة، ا لثورة، مثلث المشهد السياسي الحالي في اليمن، وبين زوايا هذا المثلث وأضلاعه شعب يذوق جحيم الآخرة في حياته الدنيا كل يوم، شعب أفاض عليه النظام بكل ألوان الأسى والبؤس حتى نجح أو يكاد ينجح في تجريده من قيمه وإنسانيته.
اعتقد ولا يزال طبعاً هذا النظام أنه ما خُلق إلا ليحكم، لسان حاله "أنا رب كرسيي وللشعب ربٌُ يحميه"، لا يهمه غير بقائه حاكماً حتى وأن سقطت السماء على الأرض وقد أبدى استعداده الكبير والملحوظ في دفع أي ثمن مهما كان في سبيل البقاء على الكرسي.
بدأ ذلك الاستعداد في أبين ولاح في أرحب وبكرامات "قيران" استقر وتعزز في الحالمة تعز، ولذلك رأينا النبي/ علي عبدالله صالح بعد معجزة القذيفة التي أسري به بفضلها من جامع النهدين إلى بلد المسجد الحرام، رأيناه كيف ظهر متشبثاً بالحكم، مظهراً التحدي، وداعياً إليه، غير آبه بالحروق الطاغية على وجهه وأطرافه وعدم مقدرته على التحرك الحر، فتلك أمور شكلية لم تفقده –كما قد تفقد غيره الحياة والمنصب- جوهر ما هو عليه حاكماً ورئيساً وهذا الأهم والمهم، أظهر ذلك ليحيا من حيى عن بينة ويهلك من هلك عن بينة، ذاك حال النظام الذي بُلينا به وتلك سجاياه، فماذا عساني أكتب عنه؟! إن نظاماً جعل المدفع قلماً يكتب به أبشع المشاهد في جسد شعبه لا يمكن أن يثنيه مقالاً عادياً بقلم عادي في ورق عادي عما يريد ولا يمكن أن يعير هكذا كتابات أدنى اهتمام، بل يعتبرها ترفاً من التضليل الممل.
من قال إن شر البلية ما يضحك، فالناظر لحال المعارضة اليمنية لا يملك إلا أن يبكي حسرة على ما ارتضته لنفسها من مكان لا تحسد عليه، تؤمن معارضتنا إيماناً لا يخالطه أدنى شك أنها خُلقت لتعارض فقط، لا لأي شيء سياسي آخر، وانطلاقاً من إيمانها العميق هذا تعذر عليها القيام بأي تصرف جريء، يشكك في إيمانها المذكور ولتجسد فطرتها وما تؤمن به، عارضت المولود البكر للثورة المتمثل بإعلان الشباب مجلس انتقالي يدير البلاد في ظل الفراغ المخيف الذي تعيشه، عارضته فقط لتؤكد للقاصي قبل الداني أنها معارضة بحق وحقيقة لا زيفاً وإدعاءً، وزعمت أنها ستشكل مجلساً وطنياً، وهانحن قد تجاوزنا ما يقارب الشهر وما انتابها حراك، وحدها الثورة من تؤثر الحياة لهذا الشعب حين ترى نظاماً مستميتاً في التشبث بالحكم ومعارضة متنصلة أو مغلولة اليدين، لا تملك من الأمر شيء.
تؤثر الثورة السكون وهو مناقض لفطرتها وهو إيثار ساذج، خاصة وهو يركن إلى فاقد شيء كالمعارضة، أو مخلص مجهول لم ولن نراه بعد.
لطالما امتلك الثوار عزائماً قوية، فثبطها الأوصياء، ولطالما أرعبت حممها من يسكنون القصور المحصنة المنيعة، ذات النوافذ المضادة للرصاص، فقلل الأدعياء من أن نار الثورة وقالوا إنها تخيف ولا تؤذي.
وحده النظام من أدرك ورطته وأزمته، فترك المراوغة وهي طبع لصيق به طيلة عهدنا به، تركها وخرج إلى العلن يدعو الجميع إلى شرف النزال، فعل ولا زال وسيظل، لأنه حقق المحال، فما كان يتصور أو يحلم أ، ثورة كهذه في بلد كهذا لشعب كهذا وحدته وحضرته وعكست كل التصورات التي استمد بقاؤه من تصديرها، ما كان يظنها ستصير أزمة سياسية بينه وبين المعارضة، وحين أصبحت كذلك على الأقل في نظر اللاعب الخارجي مد صالح من مشفاه السعودي رجليه المكلومتين، بل وجعل واحدة فوق الأخرى، كناية عن النجاح، ونكاية بالمعارضة والشعب والثورة.
عبدالمعين المضرحي
عن أي شيء نكتب؟! 2184