لا بد أن يدرك آل صالح أن عهده في الحكم انتهى غير أن دور آل صالح يمكن أن يتجدد، ولكن ليس الآن وإنما مستقبلاً بتوفر الرغبة والجدارة لدى أي منهم.. ولا بد أن يدركوا أن العهد الحالي قد طال وتطاول أكثر مما ينبغي ويحتمل، وأنه قد استهلك في العقد الأخير، ليس فقط ما أمكن للرئيس صالح أن ينجزه (وإن كانت إنجازات صالح أقل من المطلوب والممكن بكثير)، لكنه استهلك ويكاد أن يدمر ما بناه أسلاف صالح في الشطرين في كل مجال تقريباً، وفيما ظل إعلام النظام يتغنى بالمنجزات، ظل المهتمون من أبناء اليمن والمتابعون من عقلاء العالم يحذرون وينذرون منذ سنوات من مصير بلد صار على شفير هاوية، أو مثل سفينة تغرق لا أحد يرغب أو يقدر على إنقاذها، على حد تعبير روبرت بوروس في 2005..
سيقول التاريخ إن وحدة شمال وجنوب اليمن تمت في عهد صالح، لكنه سيذكر أيضاً أن التراجع عن الوحدة والسعي إلى الانفصال سرعان ما عاد ليكون خيار قادة الجنوب بعد شهور من إعلان الوحدة!، ومن المؤكد أن التاريخ سيشير إلى أن عدم قدرة صالح على تقبل شركاء حقيقيين في الحكم كانت سبباً رئيساً لتبرم قادة الجنوب، ومحاولتهم العودة مبكراً إلى التشطير.. ومثلما نرى وندرك ونعلم اليوم، سيكتب المؤرخون : إن صالح ظل يكرر خطاباً بلغة وحدوية طيلة أكثر من عشرين عاماً، غير أنه ظل يكرس سياسات وممارسات الاستحواذ والعشائرية والأسرية، وإقصاء كل طرف فاعل، ولذلك تزايدت دعوات الانفصال لدى كثير من أبناء الجنوب سنة إثر أخرى، ولو أمكن أيضاً تصور انفصال الشماليين عن أنفسهم وعن بعضهم لفعل كثيرون.
سيذكر المؤرخون أن النفط اكتشف في عهد صالح، لكنهم سيقولون إن أشخاصاً محدودين وأسراً بعينها قد استغلوا النفوذ وأثروا ثراءً فاحشاً وفاسداً، وهؤلاء في مجملهم حلفاء لصالح أو مقربين منه، أما الطبقة الوسطى، فلم يعد لها ذكر في اليمن، ويعيش أكثر من نصف السكان تحت خط الفقر..
لم أكن من اللصيقين بالرئيس صالح، واقتربت منه في مناسبات محدودة أكثرها عامة، وأستطيع التأكيد أنه يملك عدة مزايا، ولكن ليس من بينها مزية القدرة القيادية على حشد الجهود من أجل بناء دولة مهابة وأمة محترمة ومؤسسات راسخة البنيان، ولا تتوفر لديه موهبة تكوين وبناء قيادات متميزة تساعده في العمل، وتخلفه في التنظيم والجيش والدولة، إن غاب أو تعب أو عجز، فالقائد الحقيقي يلهم ويخلق ويبني قادة وليس أتباعاً، وليس من بين مزايا صالح الانضباط والحزم، الضروري لبناء الأمن والعدل والنظام لدولة أحوج ما تكون إلى ذلك وهي في طور التكوين والنشوء، وأذكر أن أحد الزملاء البرلمانيين من حجة، قال قبل حوالي خمسة عشر عاماً : "علي عبدالله صالح با يجزعها فوضى حتى نهاية حكمه"، وذكرت ذلك الزميل بمقولته تلك قبل أكثر من سنة في القاهرة بحضور ورفقة وفد برلماني منهم إنصاف مايو، وذكرته بذلك أيضاً، بعد اندلاع المسيرات والإعتصامات في اليمن، وأمثال الزميل كثيرون، وكثيراً ما يبدون امتعاضهم ومعارضتهم القوية في مجالس خاصة، لكنهم معارضون في السر وموالون في العلن!، ولو أعلنا كثيراً مما أسررنا لكان حال البلد مختلف، الزميل العزيز لا يزال على حاله وفي صف الرئيس، ظاهرياً كما يبدو، إلى الآن!.
اليمن، كما قال عبدالرحمن الراشد قبل أيام، البلد الأكثر احتياجاً للتغيير في العالم، ووفقاً للراشد فالرئيس لا يتمتع بخيال "قيادي"، ولم يتمكن من إحداث تنمية حقيقية، وفي "اليمن" يولد الناس بلا أحلام..
وكم كانت محقة، مديرة مكتب الواشنطن بوست في الشرق الأوسط (إيلين نكماير) وهي تقول في مقال لها في فورين بوليسي في شهر أكتوبر 2010: إن النظرة القاصرة للفساد المستشري بشكل كبير، وسوء إدارة صالح وحاشيته، جعلت الجميع تقريباً – الغربيين، وجيران اليمن في الخليج، والعديد من اليمنيين – يتعامل مع كلمة "انهيار" بشكل حتمي يعتمد أكثر على "متى" سيحصل هذا الانهيار وليس "هل" سيكون؟.
وعلى المستوى الشخصي لا أخفي تعاطفي مع وضع الرئيس الصحي وأتمنى له الشفاء، لكن ذلك لا يمنعني من موافقة كل من يرى أن أسلوب حكم الرئيس صالح وإدارته وسياساته سببت لليمن اضطراباً وشقاءً وتعاسة منقطعة النظير وتتطلب جهوداً هائلة وزمناً طويلاً للتشافي منها.
بقي أن أقول لأبناء الرئيس فكروا في المستقبل ولا يغرينكم أو يغرنكم السلاح الذي بأيديكم وإمكانية ما سيحدثه من دمار وهلاك، ما بيدكم من سلاح لن يكون سلاحاً للانتصار على قطاع كبير جداً من أبناء الوطن يطالب بالتغيير المشروع والضروري، بل إن مثل ذلك السلاح أقرب إلى كونه أداة لانتحار حاضر وتاريخ ومستقبل.
أيها الأعزاء، أنتم بالسلاح الذي في أيديكم كمن يحمل حزاماً ناسفاً أول ضحاياه من يحمله، ولعلكم تدركون أن مجمل الذين في الجهة المقابلة هم من حلفاء الأمس، وقد يكون بعض منهم كذلك في المستقبل، كما هو حال الحياة دائماً، والسياسة خصوٍصاً، ومعظم الذين في الساحات مجرد مواطنين يمنيين نفد صبرهم بعد طول انتظارهم للإصلاح الذي كان يجب أن يأتي في الوقت المناسب، لكنه لم يأت قط، وإنما شاهدوا التدهور في وطنهم يتزايد يوماً إثر يوم والفساد والمحسوبية سيدة الموقف، ولذلك لم يبخل العشرات من الشباب أن يقدموا حياتهم في سبيل التغيير وأن يصمد مئات الآلاف شهورا في الميادين والساحات، ولو نزلتم إلى مستوى الناس، وأنتم الذين ولدتم وفي أفواهكم ملاعق من ذهب، ستدركون كم أن العدل والأمن والتعليم والمعيشة أصبح بمستوى لا يليق بحاجات وآدمية شعب كريم، وستدركون كم أن الشعب اليمني طيب وصبور ومتسامح ولا يستحق العذاب والتنكيل لأنه أراد التغيير.
إن الشعب اليمني المكافح يكاد يعود اليوم إلى عصر "الحمير" بسبب عجز النظام الإداري والوظيفي والأمني، عن تأمين وتوفير مشتقات النفط، ولا شك أنكم تعلمون أن العاصمة صنعاء وبقية مدن اليمن تعيش ظلاماً دامساً لا تضاهيه مقديشو أو كابول أو بغداد في أوج اضطراب أحوالها، فما بالك بطرابلس ودمشق، حيث الثورات اليوم على أشدها، لا يزال هيكل النظام الذي تقومون عليه قائماً، لكنه في الحقيقة خاوياً وفعاليته أقرب إلى الصفر وما دون ذلك، ويستحيل بعث العافية والفعالية والكفاءة في أوصاله من جديد إلا بالتغيير الشامل، حيث أن مرض النظام مزمن ومتعدد ومعقد.
بعد إصابة الرئيس، في مسجد الرئاسة، حظي بتعاطف ملحوظ من شريحة واسعة من أبناء الشعب ومن بينهم خصوم ومعارضون للرئيس، لكن التعاطف في الأحداث السياسية وفي مثل ظروف اليمن الراهنة، يكون مؤقتاً وسرعان ما يزول، وقد يستمر طويلاً في حالات مثل "الحمدي في اليمن وناصر في مصر وذو الفقار بوتو في باكستان، وكنيدي في أميركا"، ولكن بشرط عدم الاستغلال الآني الفاضح مثلما يحاول أغبياء السياسية ومبتذلو الإعلام في اليمن.
سيكون من الحمق السياسي المفرط والحس الاستراتيجي الثقيل، التفكير في توظيف تعاطف قطاع من الشعب مع الرئيس المصاب في بقاء النظام واستمراره وهو متهالك ومحتضر، غير أن التعاطف يمكن التعامل معه كوديعة لا تكسر الآن، ويمكن استثمارها في المستقبل عندما يفكر أي من آل صالح في استئناف الحياة السياسية من جديد.
كثيراً ما اقترحت وتمنيت لعهد صالح خاتمة حسنة، غير أن هناك من يصر على عكس ذلك، ومن أولئك خصوم صالح الألداء، لكن منهم أيضاً من يزعم حب صالح إدعاءً، أو من يوده ويحبه حقيقة، ومع أن الود والحب أشكال وأنواع ومذاهب، غير "إن من الحب ما قتل".
شفا الله الرئيس صالح ورفاقه من إصابتهم وحمى الله اليمن الغالية وعافاها من عللها الكثيرة وكف عنها شر الحمقى من أبنائها.. والله المستعان.
imrani3000@yahoo.com
× نقلاً عن المصدر أونلاين.