الفقر مدرسة، بقدر ما تعلم الناس فن استخدام الواقع بكل ما فيه، فهي تعلمهم أيضاً استغلال كل ما فيه حتى أنفسهم، فتصبح الظهور منحنية في عز الشباب، وتلك الأقدام ملتوية بفتور كسيقان أشجار جوز الهند المبعثرة على جزر الكاريبي، واليدان مشققتان كأرض بور، جدباء لا تنبت الزرع ولا يزورها المطر، العينان غائرتان، القدرة على العمل لا تكفي إلا لسد الرمق، الفقر هو من يدفع أولئك الشباب البسطاء للجلوس إلى حضرة الشمس عند الظهيرة، في طابور بليد يتلوى من الجوع، كما يتلوى أفراده على ظهور موتراتهم التي تحمل شعارات اليأس والهم والخيانة من القريب والغريب.
وجوه ألهبت ملامحها حرارة الظهيرة، ورسمت الحاجة على أجساد أصحابها رغبة الطيران إلى السماء بلا أجنحة، حين أراهم يتخطون أقدارهم على شوارعنا الكئيبة بالكاد يجدون ممراً ينقل أمتعتهم من بشر الرصيف إلى وجهاتهم البعيدة، أتمنى عندها فقط لو كان لي من الأمر شيء، لكن عسى أن يكتب قلمي ما يثلج صدورهم الشابة التي تحلم بمنزلٍ وأطفال وزوجة، وكلمة "بابا" ترفرف حولهم بزهوٍ، يرضي غرورهم كآباء، يغدون خماصاً كالطير لا تحمل رزقها على ظهورها، ثم يعودون بطاناً تحمل حواصلهم المتعبة المال والحلوى والدواء وكل ما يُثير صخب الطفولة حولهم.
هؤلاء الشباب ينحتون شوارع المدينة صباح مساء، ليقولوا للفقر "لا" متكئين على حائط التعب، فهذا أشرف من إقصاء الفضيلة الذي يعانيه آخرون، امتلكوا الكثير الكثيـر، ولم يمتلكوا شرف العيش، وهذا أكبر من تحميل ظهر البطالة ما لم تعد تحمله، وهذا أيضاً أطهر من سقي بذور الرذيلة قطـرة قطرة.. وبث برامج التخريب عبر قنوات الشد والجذب التي أشعلت نار الفتنة في المجتمع، بينما كانت الفتنة نائمة في سبات عميق.
هؤلاء الشباب الكادحون الذين أصبحوا يشكلون أسرع وسيلة مواصلات في تعز الجميلة، قدموا خدمة للوطن، دون أن يشعروا بذلك.
ألم يخففوا من البطالة؟، ألم يحاربوا الفقر؟ ألم يؤسسوا أسراً بالحلال الطيب القليل؟، ألا يحتملون حرارة الشمس وخطورة الطريق، لينقلوكم على ظهور دوابهم الحديدية من أقصى المدينة إلى أقصاها؟، ألم يسهلوا وصولكم إلى مناطق، لم تكونوا بالغيها إلا بشق الأنفس في زمن أصبحت الحيوانات تطالب بحق الحياة الكريمة؟!، مزعجون.. نعم، لكن لا يلبثوا أن يهدأوا لأنهم ينامون أيضاً، كما ننام نحن، وما عسانا نشتري بمنعهم من الضجيج؟ والفوضى تسكننا قلباً وعقلاً؟
منهم المنحرفون عن جادة الصواب، مُحببون، خنافس، ألفاظهم سيئة، نعم.. لكن منهم من يكدح بصمت، ليوفر قيمة الدواء لوالدته.. منهم آباء لابد أن يعودوا إلى منازلهم في أيديهم ما يبعث السعادة.. أو يؤوي من التشرد.. ومنهم من يطلب العلم بما يكسب من قيادة الموتور، ومنهم.. ومنهم..إلخ.
فلماذا نتهمهم تحديداً بالفجور والبلطجة والإزعاج وتشويه جمال الحالمة؟، أليس من أصحاب السيارات الفارهة من يفسد ويبطش ويثير الشغب؟، دعوا هؤلاء الشباب يضربون لسواهم مثلاً في الاعتماد على النفس والرضا بالقليل، وتحمل المشاق في سبيل الوصول إلى أهدافهم، اعترض أحدهم بشدة مبالغ فيها على وجهة نظري هذه واعتمد دليلاً واحداً وهو قيام صاحب موتور بالاعتداء على حقيبة سيدة تقف على الرصيف وأخذ ما فيها من مال، فذكرت له أن آخراً من هؤلاء الشباب وفي تعز تحديداً أعاد حقيبة تحوي مبلغاً كبيراً من المال وجدها بالصدفة أمام أحد المحال التجارية، وهذه لم تكن حجتي فقط، إنما مجرد رد فعل لا أكثر وأنا أرى أن الحجة الحقيقية هي كل ما سبق.
وأنا أحترم أبنائي الشباب -أصحاب الموتورات المزعجة جداً- لكنني أرى أنهم قد حصلوا على سنارة بدلاً من أن يشحذوا سمكة كل يوم.
تحية لذلك الشاب الأسمر الذي أحرقت الشمس جبهته البيضاء، وهو يحول بين نفسه وبين الفقر، ويعود يومياً لوالدته بشيء من البر والحب والتضحية.
أنا أطالب فقط بشوارع خاصة لهؤلاء الأبطال الذين لم يسرقوا ولم يرتشوا ولم ينهبوا حقوق الناس وكل الذي فعلوه أنهم أثبتوا أنهم رجال صغار وغداً سيصبحون رجالاً كباراً، يعتمد على أكتافهم القوية هذا الوطن الجميل.
تحية خالصة لأبنائي الشرفاء الكادحين الذين يمرون على جبال الهم مرور الكرام ويعيشون بمنتهى القوة وهم في غاية الضعف.
لا تقلقوا سوف يأتي اليوم الذي تتحول فيه موتوراتكم الصغيرة، إلى ذكريات كبيرة بعد أن تمتلكوا عربات جميلة، تليق بصبركم تحت سطوة البرد وكبرياء الحر، فقط كونوا أكثر حذراً على الطريق وأحسنوا التوكل، ولا تتواكلوا مثل أولئك الذين يقودون عرباتٍ فارهة ويدسون السم في كأس الوطن، أنا أحبكم كما أحب كل الكادحين الذين لولاهم ما وجدنا من يرسم الأمان على وجوهنا.
ألطاف الأهدل
شبابٌ كادح..... 2240