يخلط كثيرون -بعضهم بقصد وبعضهم بدون قصد- بين الموقف عموماً من الأحزاب والتنظيمات السياسية، وبين دور الأحزاب في اللحظة الثورية القائمة الآن في اليمن.
من هذا القبيل نسمع كلاماً عن أن الثورة شبابية وأن الأحزاب استولت عليها، هذه هي الصيغة الأكثر التصاقاً بالآلة الدعائية للنظام، ومحور اشتغال جزء كبير من وسائل الإعلام.
ما يتوخاه هذا القول ويهدف إلى تحقيقه هو النأي بالثورة عن مطلبها الوحيد والمتمثل بإسقاط النظام وخطوته الأساسية ومناط تحققه رحيل رأس النظام، وما بين مطالب أقل من هذا السقف يراد أن يعود لها الشعب الثائر، ومثل هكذا منطق يعتبر بديلاً لنظام لا يستطيع أن يرفض ثورة الشعب وجهاً لوجه، وإنما يلجأ إلى أسلوب "ولكن هذه ثورة ركبت موجتها الأحزاب، هذه ثورة ولكن استولى عليها فلان وزعطان وفلتان.
بالعودة إلى الأحزاب، نقول: إن هناك فرقاً ما بين متطلبات اللحظة الثورية الراهنة، والموقف عموماً من التنظيمات الحزبية في لحظة خروج الشعب في ثورة سلمية شعبية تتحيد كل المسميات والأطر، وتتدفق مكوناتها إلى الساحات كأفراد وليس كأطر حزبية أو غيرها، بمعنى أن الجميع يجمد إطار نشاطه الجزئي ويتوحد مع الآخرين بكافة انتماءاتهم حول هدف جماعي واحد، يحركه ضمير جمعي متحد يمثل كل الشعب.
من هنا تأخذ الثورة السلمية الشعبية صفتها كثورة، من خلال كونها تجسيداً لفعل جماعي يشترك فيه ويلتف حول هدفه كل الكتل والقوى المجتمعية بكافة أطيافها، شبابية وحزبية وسياسية وقبلية، تتجاوز كل الحواجز الإيديولوجية والمناطقية والجهوية وكل التباينات لتضم الجميع حول هدف واحد، يتمثل بتغيير الإدارة العامة للمجتمع المسماة بالنظام السياسي المتمثل بالديكتاتور والحلقات الرئيسية المحيطة به، وتلقائياً طريقة إدارته للبلد "السيستم" أو النظام.
وينبغي هنا التفريق بين ذوبان كل القوى في الساحات لتحقيق هدف جماعي، وبين الموقف العدائي من الأحزاب، والنظر إليها كقوى يتم تصويرها كقوى هدامة وذات أجندات مناقضة للشعب ومصالحه وتحميلها مسؤوليات لا حصر لها من التآمر وخطف الثورة، إلى إيقاف الغاز والبترول وما إلى ذلك.
إن غياب العمل السياسي المنظم والمؤثر وخلو الساحات العربية من القيادات والرموز الفاعلة في المجالين السياسي والنقابي والثقافي خلال فترات الاستبداد الماضية في أكثر من بلد عربي لم يكن فضيلة أو ميزة ينبغي المحافظة عليها والتمسك بها.
مثل ذك أيضاً فإن القول بأن الثورة شبابية وأخذ هذا العنوان لوضع حواجز مع القيادات الحزبية والنخب ليس أيضاً امتيازاً ينبغي الحفاظ عليه.
صحيح أن الثورتين التونسية والمصرية تحققتا باندفاع شعبي لم يكن للأحزاب دور رئيسي فيه، غير أن ذلك يعود إلى أن الديكتاتورية التي جرفت المجتمع طوال العقود الماضية قد أفرغت المجتمع من أي تكوين منظم وقضت على كل القيادات الحزبية والرموز النخبوية، إما بالتصفية المادية، أو التصفية المعنوية.
ولو كان هناك قوى منظمة لما أعاقت الثورتين، ولكنها كانت ستساهم في تحقيق أهداف الثورة بصورة أفضل لاحقاً، ومن دون وجود قوى منظمة تقتصر الثورة على الإطاحة والإزاحة للنظام، مع عجز وقصور في المرحلة اللاحقة للثورة.
صحيح أن إزاحة ديكتاتور والإطاحة بنظام كان أشبه بالمؤبد، والقضاء والقدر- ثورة بحد ذاتها، ولكن وجود قدرة لدى المجتمع على بناء مؤسساته عقب الثورة وإنجاز مرحلة البناء التي تعقب مرحلة الإطاحة، سيكون أفضل.
وفي هذا السياق يحذر الدكتور/ وحيد عبدالمجيد من استمرار الثورتين المصرية والتونسية في حالة سيولة، لأنهما لم تتمكنا من تشكيل حزب أو تنظيم كبير، وكان هذا أحد عوامل تعثر التحول الديمقراطي في جورجيا وأوكرانيا.
طبعاً يختلف الوضع برأيي ما بين النموذجين، فالإطاحة والإزاحة لنظام ارتبط باسم حاكم فرد وأسرته لمدة تصل إلى ثلاثة عقود- يعتبر بحد ذاته ثورة بغض النظر عن مستوى تحقق بقية الأهداف، ويبقى الحديث عن الأحزاب أو تنظيم يستوعب أهداف الثورة ممكناً ومطلوباً.
وأرى أن اليمن تتميز عن الحالتين التونسية والمصرية في هذه النقطة بالذات، فالحياة السياسية في اليمن كانت أكثر حيوية واتساعاً والأحزاب أكثر تأثيراً وقدرة استيعابية لقوى شعبية ومجتمعية وقبلية، فلم تكن الأحزاب اليمنية في أية لحظة بنفس نخبوية وضعف الأحزاب المصرية، وإنما كانت جزءاً من حالة حيوية ومؤثرة.
هذا المعطى يبرز الآن كعامل إيجابي مطمئن لمستقبل اليمن عقب الثورة، أكثر من كونه عاملاً محبطاً، ومثيراً للمخاوف كما يراد له أن يكون.
وخلاصة القول: إن الأحزاب اليمنية المعارضة قد أحسنت الفعل بذوبانها في ساحات اعتصام الثورة السلمية، كأفراد من هذا الشعب يقفون معاً لتحقيق هدف جامع بصفتهم مواطنين، مجمدين كل انتماءاتهم وتحيزاتهم الأخرى.
وأن هذه الأحزاب أيضاً مطالبة إلى جانب المكونات النخبوية الأخرى للعقل الجمعي اليمني، بأن تسخر كل طاقاتها الذهنية والتنظيمية والإعلامية والسياسية لخدمة هذا الهدف العام الذي أجمع عليه الشعب اليمني، وتعمل من أجل تحقيق هذا الهدف مع كل الشعب نتواضع ودون أي استعلاء أو منّ، بل تُنزل إلى جانب الجميع كتفاً بمحاذاة كتف، كيمنيين يتوحدون في لحظة فارقة واستثنائية لم يشهد لها التاريخ مثيلاً.
ولاحقاً سيعرف اليمنيون كلهم بعد الثورة، أي معنى إيجابي يتحصل عليه بلدهم بوجود قوى سياسية منظمة ومؤثرة، سيكون دورها أكثر اتساعاً وتأثيراً في مرحلة ما بعد الثورة.
* * *
التناقض الذي برز الآن بفعل الثورة السلمية هو تناقض بين طرفين: الديكتاتور ونظامه من جهة، والشعب اليمني في الجهة المقابلة، وحالياً تحاول الآلة الدعائية أن تصور هذا التناقض كخلاف حزبي بين الحزب الحاكم والمشترك، للإفلات من الصورة الحقيقية كمواجهة مع الشعب.
في ذات السياق يتم استحضار أسماء وشخصيات لتصوير الحالة الثورية كخلاف أو تناقض بين الرئيس وخصومه المعترضين، من هنا يأتي تكثيف مركز يستحضر اسم علي محسن تارة، وحميد الأحمر تارة أخرى، الإخوان المسلمين- أولاد الشيخ.
وكل هذه الرسومات الوهمية تتوخى الهروب من التناقض الحقيقي والأساسي بين الشعب ونظام حكم يقف على قمته الرئيس.
الإطاحة هنا هي إطاحة بالهيمنة والاحتكار ولا يعود ممكناً تخويف الناس من سيطرة شخص أو قبيلة أو حزب ولو لم يكن في الثورة علي محسن أو حميد الأحمر، لاستحضر النظام أسماءً أخرى كأعداء مفترضين أو فزاعات للتخويف، سيقولون مثلاً إنها مؤامرة من حيدر العطاس ومحمد عبدالملك المتوكل وستجد الآلة ما تلوكه مثلاً عن "مهندس الانفصال ودكتور الإمامة، و.. و..".
مصطفى راجح
دور الأحزاب والنخب في الثورة وما بعدها 2493