يكفي عنوان من قبيل تظاهرات واعتصامات في محافظات كردية بالعراق، خرج فيها الأكراد العراقيون منتفضين ضد الأحزاب العتيقة المحتكرة للتمثيل الكردي والمستمدة وجودها من هذا التمثيل العمودي، مثلهم خرج العراقيون أيضاً للتظاهر والاعتصام السلمي في بغداد والموصل ومدن عراقية أخرى.
خرجوا كعراقيين يطالبون بإسقاط حكومة الفساد والحرية، وطبعاً رحيل الاحتلال الأميركي، خرجوا كعراقيين لا كشيعة ولا كسنة بل كعراقيين أحرار، يحاولون أن يتخطو العتبه، عتبة الانقسامات المذهبية والطائفية، هم في البداية، وربما لازال أمامهم الكثير لكن المهم أنهم بدأو بالخطوة الأولى، ومحاولة التجمع كشعب لا كطوائف ومذاهب بالتوازي مع ذلك أيضاً هم بدأو بنفس الخطوة بالخروج من دوامة العنف والدمار والتفجيرات العبثية.
هذا العنف الأعمى والكثير شاهدناه طوال السنوات الماضية، وهو عنف دمر العراق وروابط الانتماء الوطني بين أبنائه أكثر بكثير مما أضر بالمحتل أو قوض وجوده في أرض العراق.
لا مجال هنا لتحديد من أين أتى كل هذا العنف، فالشبكة متداخلة وواسعة، هي بدأت بالاحتلال، وسقوط النظام على شكل شظايا فوق كل العراق، ممتزجاً بالمحتل وأجندته، مترافقاً مع أطراف متنوعة رأت في ساحة العراق مجالاً مفتوحاً لمد النفوذ ومواجهة الخصوم، وترتيب الأوراق أحياناً وخلطها في أغلب الأحيان.
وفي كل خبر عن قتلى بالعشرات والمئات كان كل شيء مختلطاً ومشوشاً فيما عدا شيئاً واحداً هو الواضح وهو: تدمير العراق، وإضافة مزيد من الجروح فوق جسده المثخن من الاحتلال وانبعاث الحقد الطائفي والمذهبي بين أبنائه على شكل مسلسل قتل يومي بدا وكأنه بلا نهاية.
الآن يتطلع العراقيون والعرب معهم إلى التئام هذا الجرح النازف، ليشكل اصطفافاً وطنياً يتجاوز الانتماء المذهبي والطائفي، ويتجاوز أسلوب العنف وتصفية "الآخر" ليتخذ من التعبير المدني السلمي طريقاً جديداً، طريقاً بدأ يعكس تأثيراته ويلقي بظلاله على الوطن العربي من مغربه إلى مشرقه بتأثر الثورة السلمية العربية التي بدأت من تونس والقاهرة تأثيراً نخلص منه إلى محددين سيتوسع انتشارهما شيئاً فشيئاً ليطغيا على المشهد السابق بكل فجائعيته واليأس الصادر عنه.
الأول: هو إعادة الاصطفاف أفقياً وفق مطلب وطني يتجاوز الانتماء المذهبي والمناطقي والطائفي والعرقي إلى الانتماء لرؤية وبرنامج ومطلب شعبي يضم مواطنين أحرار، لا بيادق في قطيع المذهب أو الطائفة أو المنطقة.
والثاني: اتخاذ أسلوب التعبير والاحتجاج السلمي ونبذ العنف وفرض الرؤى بالقوة وكانت التحامات العرب في تونس والقاهرة وليبيا واليمن وسوريا حول مطلب تغيير إدارة المجتمع العليا المتمثلة بالرئيس الدائم والنظام المؤيد، هي البداية التي أعلنت عن ثورة عربية سلمية كبرى لن يقتصر تأثيرها على إزاحة الرئيس والإطاحة بنظامه بل يمتد تأثيرها ليفتح المجال لتخلق اندماجاً وتلاحماً وطنياً على مستوى كل بلد، يقلص من الفرز العمودي، ويستبدله بالفرز الأفقي على أساس البرنامج والرؤية والمطلب الذي يتوحد حوله مواطنون دون اعتبار لمذهبهم أو منطقتهم أو طائفتهم.
وهذا التأثير يحاصر التيارات العنيفة والمتطرفة، وينتصر على الإرهاب دون إطلاق رصاصة واحدة، ودون اتفاقيات أمنية وحرب دولية تخلق الإرهاب وظروف استدامته أكثر مما تحاربه وتحاصر بؤرة وخلاياه.
هذا المشهد الجديد يرسخ قناعات الأحزاب والتيارات السياسية الإسلامية التي رفضت العنف من وقت مبكر اختارت أسلوب العمل السياسي والمشاركة السياسية والبرامج السياسية، ولعل ذورة، هذا التجربة الملهمة كانت تتمثل في حزب العدالة والتنمية التركي والآن الإخوان المسلمون في مصر الذين أعلنوا حزب الحرية والعدالة وقبلهم حزب تجمع الإصلاح في اليمن.
هذا الحزب الأخير تميز أيضاً أنه كان طرفاً في تجربة ائتلافية استثنائية لم تعرفها البلدان العربية، وهي التحالف والائتلاف مع أحزاب وطنية أخرى يسارية الحزب الاشتراكي والتنظيم الناصري والبعث" أو التي ذات مرجعية مذهبية مختلفة "الحق والقوى الشعبية"؟!
هذه التجربة السياسية كانت عاملاً رئيسياً في الدفاع عن الهامش الديمقراطي، والمحافظة على شعلة متقدة حتى وإن بقيت خافتة لسنوات طويلة بانتظار تدفق الشعب اليمني لرفع وهجها إلى العالي، إلى سقف إسقاط النظام وتغييره.
ولن يطول الوقت لتدرس هذه التجربة السياسية الفريدة في مراكز البحث السياسي والجامعات، باعتبارها منجزاً يمنياً في مجال التطور السياسي وإبداع التجارب في مجال السياسة والحياة السياسية العربية.
مصطفى راجح
ملامح الصورة الجديدة للمجتمعات العربية 2022