كانت لدى القوى السياسية المعارضة، وكذلك شباب الثورة المعتصمين في الساحات توقعات بأن النظام يتخذ من المبادرة الخليجية أداة للمناورة، وكسب مزيد من الوقت ليستثمره في محاولة استعادة شيء من التماسك في صفوفه، وخلخلة القوى والجموع الشعبية المجمعة على رحيله والمحتشدة في ساحات اليمن من صعدة إلى جزيرة سقطرى.
غير أن هذه التوقعات كانت مجرد احتمالات، ومع إدراك المعارضة لإمكانيات تحققها، فقد قررت المضي في مسار التفاوض وتحمل الانتقادات، على الأقل لكشف تشبث النظام بالبقاء في حالة التنصل عن الاتفاق الذي ساندته دول الجوار وأميركا والاتحاد الأوروبي، وإن ما يمنع الانتقال السلمي والمخرج الآمن ليس رفض المعارضة وساحات الثورة السلمية وإنما هو عدم توفر القناعة أصلاً لدى الرئيس ونظامه بتسليم السلطة وتجنيب البلد مخاطر عديدة، قد يؤدي إليها ذلك العناد والمكابرة.
والواضح أن الموقف الحقيقي للنظام من المبادرة الخليجية لم يستطع التخفي والتواري حتى لما بعد التوقيع، بل بكر في الظهور حتى قبل توقيع الاتفاق، فقد تابع الجميع هذا الأسبوع تعثر المبادرة الخليجية نتيجة رفض الرئيس التوقيع عليها، وإصراره على أن المسألة، لا تعدو عن كونها أزمة بين طرفين سياسيين هما الحزب الحاكم وأحزاب المعارضة، وأنه سيوقع الاتفاقية كتعميد بعد توقيع الطرفين.
وهذا كان تطوراً مفاجئاً، يجهض المبادرة، ويعبر عن رفض النظام للتعاطي مع المشكلة الحقيقية التي قامت الثورة وقدم خلالها الشعب اليمني مئات الشهداء وآلاف الجرحى وهي بقاء الرئيس في الحكم وضرورة رحيله عن كرسي السلطة، كمطلب أساسي لهذه الساحات المكتظة بالمعتصمين.
ولم ينتظر النظام مضي الوقت والتوقيع على الاتفاق، حتى ينتقل إلى الخطة البديلة التالية لعرقلة هذا الاتفاق المتمثل بتنحي الرئيس، بل استعجل وصنع الحاجز الثاني بقول أكثر من ناطق ومستشار أن الرئيس لن يستقيل قبل رفع الاعتصامات وعودة السيطرة الشخصية على الجيش الذي أعلن انضمامه السلمي لثورة الشعب اليمني وحماية اليمنيين، كواجب دستوري لهذه المؤسسة التي تعتبر جزءاً من الشعب اليمني ومنوط بها دستورياً حمايته وضمان أمنه واستقراره وليس حماية شخص الحاكم وضمان بقائه وتأييده في كرسي الحكم.
إذن يتبين لنا أن النظام يتوخى من المبادرة الخليجية إجهاض هذه الثورة وتفكيك ساحاتها وانجاز مالم يستطع إنجازه، وليس تهيئة البلد لعملية انتقال سلمي وسلسل للسلطة وترتيب خروج آمن للرئيس، وتوافق القوى السياسية على محددات مرحلة انتقالية توافقية تفضي إلى ترتيب انتخابات نيابية ورئاسية نزيهة، تمكن الشعب اليمني من اختيار البديل الذي سيخلف الرئيس ونظامه.
هذا الوضع الآن يضع الجميع أمام مسؤولية كبيرة، فهذا الرفض للحل التوافقي لنقل السلطة لا تقتصر مخاطره على احتمالات إقدام النظام على محاولة الخروج من مأزقه باستخدام القوة الشاملة ضد ساحات الاعتصام، بل إن بقاء الوضع على ما هو عليه يحمل مخاطر انهيار "الدولة" والاقتصاد والمجتمع، فاستمرار عناد النظام أدى إلى تعطل البلد اقتصادياً وسياحياً وتعليمياً ووصل الأمر إلى فشل السلطة القائمة في توفير الغاز والبترول والكهرباء، وربما كانت هذه أزمات مفتعلة من قبله لتطفيش اليمنيين وتهديدهم وإرهاقهم علّ وعسى ينقلبون على الثورة، أو تضعف معنوياتهم وهم يرون تشبثاً بالسلطة لا يتورع عن استخدام أي شيء من أجل البقاء في كرسي الحكم.
وما يغفله النظام أو يتجاهله متعمداً، يدركه الجميع بمن فيهم الأطراف الخارجية، وهذا المعطى يتمثل في كون الثورة السلمية الشعبية أصبحت أمراً واقعاً، يفوق في واقعيته ومعطيات تحققه واستمراريته عوامل بقاء النظام واستمراريته.
فهذا الالتفاف الشعبي حول مطلب التغيير يمتد من أقصى اليمن إلى أدناه، وهذه التضحيات لا تتيح مجالاً للتراجع والانكسار، مضافاً لذلك التفاف القوى الحزبية والقبائل وقوى دينية وعسكرية وبرلمانية وحزبية، كانت جزءاً من بنية النظام إلى الثورة السلمية.
والدلالة الأهم من ذلك هي أن كل هذه المعطيات من ساحات الاعتصام إلى كل الملتفين حول الثورة، ليست إلا تعبيراً عن المزاج الشعبي المساند للثورة والذي يعتبر شرطاً لا غنى عنه لقيام أي ثورة، أن تكون تعبيراً عن المزاج العام للشعب، فلا جدوى لمطلب من دون حاضن شعبي ومجتمعي.
فقد كان الحراك السلمي الجنوبي يخرج في تظاهرات احتجاجية بالآلاف وعشرات الآلاف، ولكن مكمن قوته أنه كان يعبر عن المزاج العام في جنوب اليمن.
والآن يعتصم مئات الآلاف على مدار الساعة في عموم الساحة اليمنية ويلتحفون التراب ويحتملون البرد والرياح والمطر والجوع، ويخرجون في مسيرات متواترة على مدار الأسبوع، أعداد تصل ذروتها إلى الملايين يوم الجمعة وأيام التظاهرات وهذا هو المزاج العام والحاضن الشعبي، الذي يشكل مشروعية الثورة ومكمن قوتها.
وإذا ما أضفنا إلى هذه المعطيات أن النظام لم يعد موجوداً كسلطة قادرة على إدارة البلد سواءً بالوسائل السياسية والإدارية، أو حتى بالسيطرة الأمنية، يكون الحل الوحيد هو في التوافق من أجل نقل السلطة سلمياً وهذا عكس ما يتوخاه الرئيس ونظامه من المبادرة الخليجية التي يراد منها مساندة الرئيس في البقاء والاستمرار في الحكم وهزيمة الشعب اليمني متمثلاً في ملايين اليمنيين في ساحات الاعتصامات والذين يعبرون عن أنفسهم بالاحتشاد والتجمع في المظاهرات والصلاة في ساحات الثورة في المحافظات.
فخلف هذه الاشتراطات تقف رغبة شرسة وعمياء للتشبث بالسلطة، ومعيار الأداء والنجاح هنا هو البقاء في الحكم وليس المخاطر المحدقة بالبلاد، البقاء في الحكم ولو أدى الأمر إلى مزيد من القتلى والجرحى وتعطل عجلة الحياة والاقتصاد والسياحة والتعليم والخدمات ولاحت في الأفق احتمالات التفكك والانهيار للبلد ككل.
هناك ظرفان، إما أن ينهزم الشعب وبالتالي تهزم اليمن وشعبها ورئيسها وتسقط في المجهول، أو ينتصر الشعب وبالتالي يكون الجميع منتصراً، الرئيس الذي ضحى من أجل شعبه وتجنيب بلده مخاطر الانهيار والدمار، والشعب بجميع فئاته ومناطقه وقبائله وأحزابه وقواه السياسية والمجتمعية، يكون منتصراً من خلال خلق لحظة أمل جديدة، تتيح له بناء دولته المدنية الحديثة، دولة على مسافة واحدة من الجميع وقانون يتساوى أمامه الجميع كمواطنين.
مصطفى راجح
مكابرة تدفع اليمن إلى الهاوية 2360