هل حقاً انتهى عصر القيم والمبادئ والمثل كما يقال، وأن تلك الأشياء أصبحت "كاسدة" أو عملة قديمة عديمة التداول ولا يحتفظ بها سوى محبو التحف والتذكارات، فلقد أصبحت ظاهرة ملفتة للنظر أن تسمع أشخاصاً يرددون بألم وحسرة، بل وبإحساس عميق بالمرارة والندم أنهم أضاعوا أعمارهم هباءً ولم يجنوا شيئاً من تمسكهم بالمبادئ والقيم والمكارم والأخلاق!.
ونتساءل بدهشة واستغراب وماذا ينتظر أمثال أولئك الناس أن ينالوا نظير إيمان وقناعات بمبادئ وقيم هم اختاروها، وهل أصلاً تقدّر المبادئ بثمن، أو أن على الآخرين أن يمنحوا فلاناً من الناس الثروة والجاه لقاء أو مقابل خياراته وقناعاته، وكأنهم لم يؤمنوا بمبدأ إلا لثقتهم بأنهم سيجنون من وراءه فوائد لا حصر لها!.
إن أمثال هؤلاء الناس إنما يريدون أن يظهروا بمظهر الأبطال وأن يحملوا على الأكتاف، ويطاف بهم الشوارع وأن يشاد بهم وبطولاتهم منقطعة النظير، وفي ذات الوقت يريدون أيضاً أن تقدم وتوفر لهم الحياة المرفهة بكل مغرياتها على طبق من ذهب وهم يجلسون خلف مكاتبهم الفاخرة والأنيقة، وكل ذلك مقابل اعتناقهم مبادئ ومجاهرتهم بذلك، ولكن هل حقاً هم يؤمنون بتلك المبادئ؟!.
إن الإيمان الحقيقي، الصادق النابع من قناعات ثابتة يدفع بصاحبه لأن يقدم التضحيات بالغالي والنفيس دون أدنى شعور بالندم لما قد يصادفه من مصاعب وأزمات وصدمات، بل إن كل مشكلة تصادفه لا تزيده إلا إيماناً وتمسكاً بمبادئه، أما أن ندعي المبدأية ونجاهر بها ونتحمس للدفاع عنها عندما تكون الظروف ملائمة وفي صالحنا وعندما تتغير تلك الظروف وتصبح في غير صالحنا ولا تخدمنا، ونصدم بواقع جديد وصعب سرعان ما نتخلى عن مبادئنا تحت أعذار ومبررات واهية باعتبار أن المبادئ لم تجلب لنا سوى المصائب والويلات، وأن الحياة قد تغيرت وأن الثبات على المبادئ هو نوع من الجنون والانتحار ومناطحة الجبال، فهذه لعمري ليس لها سوى اسم واحد وهو: الانتهازية.
الأسوأ من ذلك أن هناك من لا يكتفي بالتنكر لكل مبادئه وما آمن به ذات يوم أو ذات مرحلة والتحول عنه إلى الوجهة المعاكسة فحسب، بل أنه يتناول عصا المعلم وينزل بها ضرباً وتقريعاً لكل ماضيه.
وتجده يتحسر على أنه قد ضيع سنوات عمره وهو يؤمن بأشياء اتضح له أن لا معنى ولا قيمة لها، وأنه لم ينتهز الفرص التي كانت مواتية له وما أكثرها!.
وهناك أيضاً من تجده يفعل ذلك ببعض من الخجل والحياء، معلناً أن تغيره أو "تلونه" هو وليد الظروف الراهنة لأنه مضطر لمسايرة التغيرات وأنها ظروف مؤقتة، ولا نستطيع نحن أن نصدق أو نقتنع أن يتغير و"يتلون" من النقيض إلى النقيض بين ليلة وضحاها، وأن الظروف أجبرته على ذلك.
وأمثال هؤلاء على استعداد دوماً لتغيير جلودهم حسب الوسط الذي يعيشون فيه تحت مبررات حماية النفس كما تفعل "الحرباء" تماماً، وهناك من يعتبرها مسألة شطارة أن يتمكن المرء من التأقلم مع كافة الظروف المحيطة، وتجده يسخر من أصحاب المبادئ واصفاً إياهم بالتبلد والجمود، أمثال هؤلاء يلجأون إلى السخرية من الآخرين ومن أنفسهم أيضاً، كي لا يعطوا فرصة لأحد ليسخر منهم، ويحولون المسألة كلها إلى عبثٍ وتهريج.
إن إيمان المرء بالمبادئ وتمسكه بها مهما ناله جراء ذلك من متاعب ومصاعب، إنما هو تعبير عن تقديره واحترامه لذاته قبل كل شيء، وعندما يندم على تمسكه بمبادئه كأنما يندم على احترامه وتقديره لنفسه، فماذا تبقى له بعد ذلك؟!.
إننا لا نستطيع أن ننكر إعجابنا وتقديرنا واحترامنا لأولئك الأشخاص الذين يتعاملون بمبدأية وبأخلاق عالية في كل أمور حياتهم، حتى وأن وصفناهم ظاهرياً بـ"الدونكيشوتيين" الذين يعيشون خارج عصرهم، فنحن رغماً عنا نشعر نحوهم في دواخلنا بالغيرة والحسد ونندهش من أين تأتيهم كل تلك القوة والشجاعة على مواجهة ذلك الكم من الفساد والفوضى والمغريات، والجوب ببساطة أنها تأتي من احترام الإنسان لذاته وتصالحه معها.
alhaimdi@gmail.com