النظام يتخبط الآن في قعر حفرة سحيقة، يحاول أن يتسلق على عظام الضحايا.. بحثاً عن طوق نجاة.. حافته آمنة، تقيه حتمية السقوط اختناقاً بمخرجات سياسيته الفاسدة، الفاشلة.. النظام لا يضع خطاً أحمراً بين الأخلاق وما دونه، في الوسيلة التي يمتطي ظهرها.. لإطلاق فرقعاته لسرقة الأنظار وحرف الأبصار عن نقطة التغيير التي منها ابتدأ الشعب ثورته، ليس لإنقاذ نظام فقد شروط أهليته ومشروعيته، بل لانتشال وطن من قبضة النهابة الرسميين، وحماية بلاد من التفجرات وصون حقه في حياة تليق بآدميته.
هذا النظام "الكابوسي" هو وحده من أحال اليمن إلى مقبرة جماعية، تضم بين جنباتها "رفاق" أكثر من اثنين مليون مشروع قتيل، هو وحده لا يجد مانعاً أخلاقياً في إعادة توظيف ملفات الصراع السياسي، التي كان للحكم فيها دور البطولة المطلقة، لا يجد حرجاً من هذا التوظيف المبتذل السمج الوقع، وهو ينام في حويصلته من آهات وغصات ذوي المغدورين، رصيد آخر بالتمدد الرأسي والأفقي وفي وجهات الوطن الأربع.
هذا النظام الآن يكشف حماقته أكثر وأكثـر حين يسعى إلى تسجيل النقاط العابرة باندفاع همجي أهوج بائس، وذلك من خلال نبش الماضي والتنقيب عن المقابر الجماعية، والتهديد بـ"الأفغنة" و"الصوملة" و"القذافية" والحرب الأهلية والتمزق والتشرذم والقاعدة والإرهاب والجوع والبؤس، كمحاولة لجعلها منصة انطلاق وإطلاق لقصف عمر استحقاقات وطنية ذات صلة بثورة الشعب التغييرية، ومن ثم خلط الأوراق، وجعل الثورة مجرد "دروشة" ومؤامرة على الوطن والشرعية، تمولها وتحيكها قوى خارجية حاقدة، جعل القضية ليس إخراج البلاد من حالة الأزمة، بل تأزيم الأزمة.
نعم هناك مقبرة جماعية واحدة.. حفرها وأقحم فيها الحكم تطلعات شعب بأكمله.. نعم هناك "رفاة" راكمها النظام على مدى عقدين من الزمن.. نعم هناك "قبر" جماعي، جهد النظام في تعميق حافاته وتعلية سقوفه، لطمر كل سانحة إصلاح في قعره، وجعل اليمن مقبرة حقيقية لوأد أحلام وتطلعات الشعب.
نعم هناك حروب أهلية مغذاة من خزائن سلاح السلطة، حروب ما زالت تقتفي فيها خط الدم، الذي دشنه النظام في أكثر من رقعة وفي أكثر من مكان..
نعم هناك دعوة للانفصال والتشرذم، كان النظام هو السبب الرئيسي في وجودها.. نعم هناك إرهاب قاعدي صنعه النظام ورعاه وموله، ولأن كل ما ذكر هي من صناعة النظام، فهي حتماً ستنتهي بانتهائه.
هروباً إلى الخلف –وليس إلى الأمام- من تحديات المستقبل لجأ الحكم إلى تلك المعزوفات، ليس بغية الحل وإعادة ترتيب الملف الصراعي الدامي بصورة إنسانية، بل إن التمادي في هذا العبث المناوراتي جعل الحمق وحده سيد الموقف، وجملة الفصل الأخير سيكون، بل كان ذلك حاصل قذف النظام بمعاناة الوطن من جدية الخلاص من ويلات العنف السياسي الأهلي، إلى حلبة معارك دموية "بلطجية" يجيرها ويقوم بها الحكم غير الرشيد في مواجهته لمطالب الشعب واستحقاقات الوطن الملحة.
النظام يشعل بذلك النزف عود ثقاب في عباءته، يدق آخر مسمار في نعشه، يرمي بلهب ملفات الماضي في برميل بارود إدارته المتورمة فساداً ودماً ونهباً وبطشاً.. إلخ، وهو وحده من سيحترق أولاً وتالياً، ومن سيدفع أخطر الفواتير بأثر رجعي عن سنوات تنوف عن الثلاثة العقود من الدائرة الضيقة.
يعتقد النظام الحكم واهماً من إثارة مثل هكذا فرقعات، ليس أكثر من مجرد خدع بصرية بلا تبعات وألعاب سحرية، تضخم المفتعل وتقزم المصيري، تعجل بالمكائد المفبركة، وترجئ، تحديات واحتقانات الراهن.
هكذا أُريد من توقيت الحديث عن هذه الملفات وفتحها والتهديد بها أن يقطع الطريق على مطالب الشعب.. عن ثورته التغييرية التي مبتداها إزالة هذا النظام واقتلاعه.
وهكذا نرى كيف طغت تفاصيلها المتخيلة على سطح إعلام الحكم، كمحاولة بائسة لفك العزلة من حول النظام الفساد الاستبدادي وتخفيف حدة الحصار وغضب الشعب، ومنحه فرصة أخرى ومتسع من وقت إضافي مقتطع، لينقذ من عقدة الأزمة وموجبات إعادة ترتيب أجندته.
الرقص ابتهاجاً على جثث الضحايا ربما، بل يتوهم النظام أنه استثمار للوقت بدل الضائع، وبحث عن مصداقية غائبة عن خطاب الحكم، ومجرد عبث وهدر، تشتيت وصرف للانتباه ومحاولة تثير الشفقة لخداع الشعب مجدداً.
وفي كل الأحوال بعد أن حرقت كل هذه الأوراق وغيرها من الأوراق ولم يعد يملك النظام أوراقاً أو ورقة واحدة للعب بها، فليس أمام النظام الفاسد العابث، الإلغائي الجائر، المستبد المستأثر، سوى خيار واحد لا ثاني له: خيار الإذعان صاغراً مجبراً، لمطالب الشعب في الرحيــــل إلى هامش ذاكرة التاريخ.
alhaimdi@gmail.com
محمد الحيمدي
النظام والرقص على جثث الضحايا 1738