* مع أن الاختلاف لا يفسد للود قضية، فما باله اليوم يفسد آلاف القضايا:
الحق شيء عظيم والكل يتمنى أن يكون إلى جانبه وفي صفه ولكنه عندما يضيع ويلتبس بين ركام الآراء، فإن القضية التي تكون في المقدمة هي قضية البحث عن هذا الحق، ولكن هذا البحث أحياناً ينتهي بشكل مفاجئ عندما يأذن الحق سبحانه وتعالى بإظهاره واضحاً جلياً، لا يحتمل أي شك ولكن قضية إتباع هذا الحق تبقى في يد المخلوق الذي أودعه خالقه ذلك العقل، الذي يستطيع به أن يستنتج ويحلل ومن ثم يقرر أن يستعلي على كل هذا الركام، ليكون مع الحقيقة الواضحة التي لا تحتمل أي نوعٍ من اللبس.
والله سبحانه وتعالى يقول في الحديث القدسي: "يا عبادي كلكم ضالٌ إلا من هديته فاستهدوني أهدِكُم"، وفي مثل هذه الأحداث نستعين بالله من أجل الوصول إلى الحق الذي يرضيه.. وبما أن هذه الأحداث فريدة من نوعها، فمؤكد أن كثيراً من الأوراق ستختلط وكثيراً من الآراء سوف تنقسم وهنا يأتي دور العقل في الحكم وقبول الرأي، الذي يشعر معه الإنسان بأنه قد استعلى على كل ذلك الركام.
وبما يخص هذه الثورات التي تشتعل في دول العالم الإسلامي، فقد تباينت الآراء حولها وانقسمت والمسلم الحق لا يذم ويقدح في هذا الرأي أو ذاك، وإنما يحترم كل الآراء وبحكتمه ووجدانه يختار الرأي الذي يتفق مع الثوابت والأصول التي يستقي منها أفكاره ورؤاه، التي تتحكم في تشكيل شخصيته، التي تميزه عن غيره من الناس.. ومن الآلام التي تجرح الجسد المسلم ذلك الواقع التعاملي بين المسلمين حين تختلف رؤاهم في أي قضية، فنرى أن البعض قد أصبحت قاعدته في ذلك هي"أنت معي، أنت قديس.. أنت ضدي، أنت إبليس"، وقد نسي هؤلاء أن الاختلاف سنة من سنن هذا الكون وقد قال الله تعالي: "ولا يزالون مختلفين ولذلك خلقناهم" وقد ينسى أو يجهل ذلك عامة الناس، ولكني أستغرب كيف ينسى ذلك علماء أو دعاة، فنسمع أو نقرأ عن أحدهم أنه يسب أو ينتقص من عالم آخر أو داعية إسلامي لأنه لم يوافقه في الرأي.
* الرأي والرد على الرأي الآخر:
إن الرأي الذي اقتنعت به شخصياً وقد سمعته من علماء أثق بهم أن هذه الثورات قدر الله على هؤلاء الحكام وأن الظلم عندما يزيد ويطغى فإن النتيجة الحتمية له لابد وأن تكون ذلك الواقع الذي رأيناه، وأن ذلك القمع الذي يتلقاه من قام بتلك الثورات لهو أكبر دليل على أن اللغة التي يفهمها هؤلاء الزعماء هي لغة القمع من أجل إخماد تلك الأصوات التي تنادي بحقوقها وبرفع الظلم عنها وعن أجيالها القادمة، فهم قد ألفوا منهم السكوت بأي شيء، بل أحياناً التمجيد والتعظيم عندما يقوموا بأداء بعض واجباتهم التي لا مفر أمامهم من أدائها ولذلك لماذا نستغرب عندما نرى ما يتعرض له هؤلاء المسالمون فإنما ذلك هو نتيجة الكبت والرضى عن الفاسد طوال ما مضى من العقود وأن تلك المناداة برفع الظلم قد أصبحت شيئاً دخيلاً على هذا المجتمع الذي لطالما رضي بالفتات وصبر على كل المعاناة، وعندما أراد أن يطلق الزفرات والأنات بعد كل ذلك الصمت كان ذلك هو جزاؤه.
وفي الجهة الأخرى هناك أناس لهم رأي آخر تماماً وقد سمعناهم على شاشات التلفاز وقرأنا لهم في الصحف أو قابلناهم على الأرض وعن نفسي أحبهم جميعاً وأحترم رأيهم ولذلك أريد أن أرد عليهم لعل ما وصلت إليه يكون الحق الذي يقتنع به هؤلاء ودائماً يتواصى المؤمنون بما يرونه من الحق فيما بينهم وإذا ركزت على نقاط الخلاف الأساسية في رأي تلك الثلة من الناس لوجدناها كالتالي:
أولاً: لماذا يتم استبعاد الحوار؟
وقبل الإجابة على هذا السؤال أقول لكم: إني شخصياً كنت ممن يطالب بهذا وقد كتبت مقال في إحدى الصحف ووجهت فيه رسالة إلى كافة الأحزاب والتنظيمات السياسية وأيضاً إلى الرئيس وكان الرأي الذي أميل إليه أن الحوار هو الأساس في حل كل المشكلات ولا مجال لنا إلا أن نلجأ له قبل المطالبة بالرحيل أو إسقاط النظام ولا يجوز لنا أن نتخطى الحوار والقفز عليه إلى ما بعده لكي نكون قد استنفذنا جميع البدائل في حل المشكلة ودياً، فذلك هو الأساس حتى في دعوة الأنبياء.
ولكني تأكدت أن المسألة تختلف هنا تماماً، فالمشكلة هنا ليست في البداية حتى نلجأ إلى الحوار وإنما قد تفاقمت وأصبح من اللازم اتخاذ قرارات حاسمة فيها لاقتلاع المشكلة من جذورها وعلى سبيل المثال عندما نوكل مهمة إلى شخص معين ونثق فيه وإذا به يفشل في أداء تلك المهمة فشلاً واضحاً لا يختلف عليه اثنان ليس فقط ذلك وإنما نتحمل نتيجة ذلك الفشل تأخر وتراجع إلى الوراء، أليس من الحق بأن نطلب من ذلك الشخص أن يتوقف فوراً ولا يكون ذلك إجحافاً في حقه أو انتقاصاً منه، كما يفهم البعض؟، ولكن ذلك هو العدل الذي يجب أن ننادي به فما قيمة الحوار هنا وإلى ماذا سوف نصل؟، ومع ذلك فقد حاول العلماء والمصلحون وفشلوا وقبل كل شيء تلك هي إرادة المولى عز وجل.
ثانياً: هناك مشكلات كثيرة في الساحة وكثير من الأجندات ونحن الآن بهذا التغيير الجذري سوف نقفز إلى الهاوية..
وهنا أقول إن عجلة التاريخ إذا تحركت إلى الأمام، فلن تعود إلى الوراء وليس الخوف من المستقبل بديل أمثل لنرضى بالواقع حتى ولو كان مجحفاً والشيء الأهم من ذلك أن هؤلاء الشباب وهذا الجيل الذي نفخر بأن نكون منه يثق بنفسه جيداً، أو كما يقولون "اكتشف الليث فجأة بأنه ليث"، فهل تنتظرون منه المساومة في مستقبله وطموحاته وآماله العريضة، التي ليس لها حدود؟!، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول "تفاءلوا خيراً تجدوه" وما نرى في الواقع من خلال هذه الثورات أن الخير هو الغالب وإذا كان هناك بعض من المطالب الدخيلة على هذا البلد العظيم، فلماذا لا نواجهها بنفس هذه الإرادة ونحاول أن نقترب من الأشخاص الذين ينادون بها ونعالج هذه الأغصان الملتوية، فهي أيضاً جزء من الشجرة الطيبة الممتدة جذورها في غايبة الأرض ولن تتحكم مجرد أغصان في نموها وجمالها.
كما أن هناك شيئاً آخر مهم وهو أن هذه الأمة قد تخلفت كثيراً وآن الأوان لها أن تنتفض وتعرف من أين ستبدأ من جديد ومن أجل ذلك يجب أن تفعل شيئاً فريداً من نوعه، فمن السذاجة أن نحل مشاكلنا بنفس الطريقة ونتوقع النجاح حتى وإن دفعت من أجل ذلك الكثير، فالثمن لابد ون تدفعه مرة تلو الأخرى وقد يكون ذلك تطهيراً لها من كل الأوساخ التي علقت بها كما يجب أن نعرف أن أكبر معوقات التغيير هي توقع النتيجة السلبية.
ثالثاً: هؤلاء المعتصمون يقلقون الناس وبسببهم تتعطل الحياة ومصالح الآخرين..
بصراحة هذا القول استفزني كثيراً وشعرت معه أن المنطق هنا أصبح معكوساً وأصبحت أفكر بما هي المصالح التي تعطلت أمام هذا الحدث التاريخي هل هول التعليم الذي أصبحنا من خلاله نشكل أدنى المستويات في ترتيب الدول من حيث تدني مستوى التعليم؟، أم هي الصحة وما تحمل فيها من الآهات؟، أم مصالحنا في تلك الدوائر التي تتحكم فيها شريحة معينة من الناس؟، أم أننا تعثرنا في جلب الأطعمة والأشربة، لنواصل رحلة الذل والخنوع داخل هذه الجدران التي تركها هؤلاء المعتصمون وقدموا حياتهم ودماءهم ليدافعوا عن حقوق هذا الشعب ومستقبله؟!.
ومع أننا لم نشعر بتلك الأزمة التي يشتكي منها هؤلاء الناس ومع ذلك أقول وماذا يعني لو توقفت كل حياتنا من أجل هذا الهدف الذي لا نستطيع أن نواصل الحياة بدونه مع أن الفرد منا في محيطه الضيق إذا تعرض للعديد من الأزمات أو التدهور في حياته أو أعماله فإنه يفضل أن يتوقف كل شيء ليجلس مع نفسه ويعيد حساباته ليبدأ من جديد ويكون ذلك التوقف خير له من أن يواصل نفس الحياة متدنية الأداء.
هذه كانت أهم النقاط التي جمدت كثير من العقول فخافت من التغيير والتجديد الذي هو أساس بناء الحضارات على مدار الأزمات.
وفي الأخير رسالتي لكل يمني كان مع هذا الرأي أو ذاك ولكل مسلم.. قبل أن نتطلع إلى التغيير نحو مستقبل أفضل.. علينا أن نحاسب أنفسنا ونغير منها، كلٌ بقدر ما يملك من إرادة، حتى يكون الجزاء من جنس هذا العمل، لأن الله لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم.. والله الموفق.