أحتفظ ومثلي الكثير، بصور متباينة عن اليمن، بعضها من خلال زمالتي للعديد من الإخوة اليمنيين أيام دراستهم في بغداد في تسعينيات القرن الماضي، والأخرى منقولة عن أساتذة عراقيين قضوا شطراً من حياتهم في التدريس بربوع اليمن، وصور أخرى متفرقة ينقلها بعض الغادين أو الرائحين إلى هذا البلد العربي الأصيل، بل أصل العرب، إن شئت الدقة.
كل تلك الصور، لا يبدو أنها تعبر فعلا عن اليمن الذي نشاهده اليوم على شاشات التلفاز، فلقد أثبت هذا الشعب أنه فعلا يستحق أن ترسم له صورة أفضل مما سمعنا أو عرفنا، فهذا الشعب الذي يفترض، وفقا للصورة التقليدية، أنه شعب قبلي مسلح، رفض أن ينجرّ إلى المعركة والمواجهة المسلحة التي سعى لها النظام بكل وسائله.
فبعد الجمعة الدامية التي قتل فيها نحو 52 يمنياً وجرح العشرات، والتي جاءت استكمالا لمحاولة جر المحتجين إلى ساحة الصراع المسلح، لم يتخلّ الشباب المطالبون برحيل نظام علي عبدالله صالح عن سلمية مطالبهم واحتجاجاتهم، لم يركنوا إلى السلاح، وهو متوافر لديهم بكثرة، بل حافظوا على تلك الروح التي سادت ميدان التغيير فكان أن قلبوا الطاولة على رأس صالح الذي بدا متخوفا وغير متماسك وهو لا يعرف ماذا يفعل.
الصورة الجديدة لليمن مثلتها تلك الجموع التي واصلت منذ نحو شهر اعتصامها ومظاهراتها بسلمية كاملة، ومعها تلك النساء المنتقبات اللواتي ضربن أروع الأمثلة على قدرة المرأة المحجبة في إحداث التغيير والتفاعل المطلوب مع قضايا مجتمعها، خلاف ما كان يرسمه البعض لصورة المنتقبات في اليمن.
سمعنا أن اليمن نظام عشائري، والبعض كان يصفه بأنه متخلف، غير أنه علينا اليوم أن نعترف بأننا كنا إزاء صورة قديمة، صورة أريد لها أن ترسخ في أذهان الآخرين من غير اليمنيين، صورة سعى النظام المتهالك في صنعاء لترسيخها، ولعل خطاب علي صالح يوم الثلاثاء الماضي مع قادة جيشه دليل على ذلك.
فلقد أعلنها صالح، ومن قبله مبارك، ومعه الآن معمر القذافي، بأن وجوده ضمان للسلم الأهلي، وأن الشعب مسلح، وسوف تندلع حرب أهلية إذا ما تم الانقلاب على السلطة، كما وصفه هو.
إلا أن واقع الحال يقول عكس ذلك، فهؤلاء الشباب، ومن قبلهم شباب ميدان التحرير في مصر، واعون مثقفون، يدركون ما يفعلون، مهتمون بشؤون وقضايا بلدهم وحريصون على الوحدة الوطنية والسلم الأهلي أكثر من زعمائهم الذين ما فتئوا يخوّفون الناس بشرّ الحرب الأهلية وغيرها. في اليمن تتمخض إرادة الشعب هناك لولادة صورة مشرقة أخرى من صور هذا الوطن العربي التي بدأت تتجمل لمستقبلها القادم، تتمخض اليوم في ساحات صنعاء وتعز صورة وردية ليمن كان وسيكون سعيدا من غير نظام صالح وحاشيته.
اطمأن الرئيس صالح، هذا إذا كان ما زال رئيسا، أن شعبا مثل الذي شاهدناه يعتصم في ساحات صنعاء وعدن وتعز وإب والحديدة، لا يمكن أن يتقاتل، فلقد واجه جلاوزة النظام وبلطجيته ونيران أسلحته بصدور عارية، ولم يفكر أن يرد بالمثل، بل بقي يقول: «سلمية.. سلمية».
أكيد أن صورة شعوبنا العربية شوهت وتأثرت كثيرا بسبب سياسات الأنظمة التي كانت تصورها على أنها شعوب قبلية قابلة للتناحر والتقاتل، أما اليوم فإننا أمام فرصة تاريخية لتلك الشعوب لترسم صورتها الحقيقية بعيدا عن أجهزة وإعلام الأنظمة القمعية.
الشيء الغريب، ربما أكثر حتى من هذه التزامنية في ثورات العرب، أن هذه الثورات كشفت عن حقيقة شعوب غير التي كان يروج لها، ونعرف شعوبا حية لديها قدرات وطاقات هائلة إلا أنها كانت محجوبة وراء آلة قمع وفساد وموت وتعذيب، تديرها أنظمة، للأسف يقال عنها: إنها عربية.
نقلاً عن "العرب" القطرية
إياد الدليمي
اليمن.. إشراقه جديدة 1727