أجمل لوحات العالم وأكثرها دقة ودهشة لم تكن كذلك لولا موجة الضوء المنبثقة بتوازن شديد من زاوية لأخرى تبرز ما يجب أن يكون ظاهر بلونه وضوئه وفي نفس الوقت تخفي ما يجب أن يكون هادئاً صامتاً وفق قراءة العين التي تجيد التأمل في مساحات الضوء والفراغ أكثر مما يمكن أن تحكي الأوراق والأقلام.
وعلى حائط قديم وعبر حامل ضوئي صغير يمكن أن تكتشف ملاحم مرسومة بالطين لم تقصدها يد البناء ولم يتعمد إظهار رموزها حتماً.. إذ بمجرد أن تسلط الضوء على شيء ما ومن زاوية معينة تحصل على لوحة فنية رائعة قوامها أي شيء ولونها أي لون لكن تفنن فقط في زاوية الضوء ومساحته وقدرة التلاعب فيه.. هكذا هي الصورة نفسها في هذه الأجساد التي بين أيدينا.. قوالب جميلة لها علينا حق الرعاية وهي تحمل من جمال الخلق والدقة وما يبعث على الدهشة والعجب.
تلك الأخاديد التي تحفرها الأيام على الجبال أو حتى على وجوه البشر ليست إلا تشذيباً وتأنيقاً إضافياً لهذا الجمال، الكثير مما حولنا له طلاسم لا نفهمها نحن البشر، بل نحن نجهل أنفسنا أحياناً لكن تلك الطلاسم هي الميزة التي تعطي لكل شيء حولنا تسميته الخاصة به وشكله المميز له.
نعم في مساحة ضوء ساطعة عظيمة من السماء تتشكل لوحات خصبة وأخرى قاحلة.. ألوان متداخلة وسواها مستقلة خليط هجين من آية مبصرة وآية محيت ليسكن البشر عن الحركة، هذا التوأم المنظم مهما بدا عشوائياً له مدلولاته الخاصة ويسير وفق خطة محكمة لا يحيد عنها أبداً، في خضم هذا السياق الكوني المتحد والمتناثر تبرز الحقائق واضحة قوية ضمن خط زمني دقيق جداً، هذا الجمال المتناثر على هذه القطع المتجاورة التي لونها الله بالخضيرة ونثر على وجهها ثماراً وأزهاراً غاية في الإبداع والجمال لو لم توجد لكان الكون رمادياً بغيضاً بكل ما تحمل الكلمة من معنى، إذ لا شيء يبعث على البهجة مثل هذه المناظر الخلابة حولنا هنا وهناك، ويزيدها ألقاً ذلك اللؤلؤ الذي تنثره السماء هنا وهناك ثم تجمعه الأرض بين يديها في عقود زرقاء ملتوية حول أعناق التلال والجبال وعلى نحور ا لمساحات الممتدة بفتور تحت قبابِ خضراء تحاكي الفضاء الرحب بأغنية الحياة والموت وياله من صوت ذلك الحفيف اللذيذ والهدير المنسكب عن فهم الأنهار والمحيطات والبحار.. في مساحات لا تستخدم شيئاً سوى أحساسك الذكي بالجمال وقدرتك على الانضمام إلى هذه القافلة الرحبة التي جمعت ذرات العالم ورماله.. سهوله ووديانه.. جباله وقيعانه.. انسه وجنه في رحلة واحدة منظمة لا مجال فيها لإلغاء تأشيرة السفر مطلقاً.. لا شيء أجمل في الحياة أن تمنحك أقدارك قراءة متمعنة في كتاب الواقع وهذا ما لا يؤتاه كثيرٌ من الناس، دفاتر الحياة تعج بالأحداث ومهما أجهضت أحزانها تعود فتصبح حبلى بالضجيج، فما الذي تنتظره من حياة تستلقي عارية على الأرض وكل ما يدب على ظهرها أو في جوفها يشاطرها التجدد والبزوغ، هذه هي الحياة.. بديعة أكثر مما نتصور. ولأننا لا نملك حق التحكم في مفاتيح أبوابها تبقى بعضها مشرعة وتستمر أخرى موصدة وهذا بحد ذاته جمالٌ من نوع آخر، إذ يتسلل ذلك الشعور بالقناعة إلينا خلسة ونحن ننظر إلى أبوابنا تلك لم تفلح أعتى أيام عمرنا بفتحها.. بينما لم تسعفنا جميع حيلنا بإغلاق ما هو مفتوح منها، من حقنا أن نجرب المشي على حروف الحياة وكلماتها.. من حقنا أن نتلذذ بطعم التمرغ على تراب الأرض.. نشتم رحيق أزهارها.. نغوض في بحارها.. نستلقي على أعشابها كالقطط.. نثبت على رمالها كالليوث.. نختال كالفراشات لكن بلا خُيلاء.. نعبُّ من معين العيون.. نقطف ثمار البساتين.. نتسلق الجبال.. نزحف مع ثعابين الأرض.. نحلق كنسورها.. نهاجر كميتان المحيط في جماعات إلى الشمال.. نعم الحياة أجمل وأكبر مما نتصور، تخيل أنك تستطيع أن ترى ذلك كله خلف شاشة عينيك.. بين يديك.. على جدار قديم وأنت تسك الضوء على أخاديد حفرتها رياح التعرية وساعد خيالنا على إبداء ووري من سوأتها تلك التي تخفيها أحداث التاريخ.. أشياء صنعتها يد الإنسان وأخرى وجدت منذ الأزل.. وبين هذا وذاك سلاسل طوال من الهزائم والانتصارات ونفحات الغناء والخلود.. وأشياء متراكمة مثل أكوام السحاب التي نشعر ونحن نتأملها أننا محفوفون بالجبال بين ثابت منها كالوتد ومتحرك في السماء كالنسور.. كون بديع.. وعقلية للإنسان أكثر دهشة إنها هي التي تحول الجدران إلى غابات استوائية.. ومساحة الماء إلى لجين يزين جبهة الأرض وأمطار السماء إلى دموع منهمرة تكفكفها الرغبة بالأفول والتلاشي.. ثم يعود كل شيء إلى مكانه الطبيعي قبل حتى أن نغمض جفوننا لنفتحها من جديد.. كل شيء كما كان أزلياً.. سرمدياً.. كون.. حياة.. موت.. عجلة الزمن لا تسبق مرايا الأحداث والعكس من ذلك صحيح..
ألطاف الأهدل
مساحة الضوء 2320